حكم المظاهرات السلمية
الحمد لله على عظيم نعمته، والصلاة والسلام على رسول الله وأزواجه وذريته.
أما بعد: فجوابا لسائل عن حكم المظاهرات السلمية، التي لا تُشهِرُ السلاحَ ولا تسفك الدماء، ولا تخرج للاعتداء على الأنفس والممتلكات، أقول (وبالله التوفيق):
المظاهرات السلمية ليست خروجًا مسلَّحًا على الحكّام؛ ولذلك فلا علاقة للمظاهرات السلمية بتقريرات الفقهاء عن الخروج وأحكامه؛ لأنها ليست خروجا، ومن أدخلها في هذا الباب فقد أخطأ خطأً بيّـنًا.
والمظاهرات السلمية هي وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي، ومن وسائل التغيير، ومن وسائل الضغط على الحاكم للرضوخ لرغبة الشعب. فإن كان الرأيُ صوابًا، والتغييرُ للأصلح، ورغبةُ الشعب مشروعةً = كانت المظاهرةُ حلالا، بشرط أن لا يترتب عليها مفسدةٌ أعظمُ من مصلحتها المطلوبة. فحكم المظاهرات حكم الوسائل، وللوسائل حكم الغايات والمآلات.
ومع أن الوسائل من المصالح المرسلة التي لا يتوقف تقريرُ مشروعيتها على وُرود النص الخاص بها؛ لأن عمومات النصوص ومقاصد الشريعة تدل على مشروعيتها؛ فقد سبق السلف من الصحابة الكرام إلى عمل مظاهرة بصورتها العصرية:
فإن من خرج من الصحابة يوم الجمل للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه، وعلى رأسهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيدالله وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، وكانوا ألوفًا مؤلّفة، خرجوا من الحجاز للعراق، ولم يخرجوا لقتال ابتداءً (كما يقرره أهلُ السنة في عَرضهم لهذا الحدَث). وإذا لم تخرج تلك الألوفُ للقتال، فلم يبق إلا أنهم قد خرجوا للتعبير عن الاعتراض على عدم الاقتصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه، وللضغط على أمير المؤمنين وخليفة المسلمين الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لكي يبادر بالقصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه. وهذه مظاهرةٌ سلفيةٌ، بكل معنى الكلمة، وقعت في محضر الرعيل الأول من الصحابة الكرام، ولا أَنكَرَ عليهم عليٌّ رضي الله عنه أصلَ عملهم، ولا حرّمه العلماء، ولا وصفوه بأنه خروج على الحاكم، مع ما ترتب على هذا الحدَث من مفسدة؛ لأن مفسدته كانت طارئةً على أصل العمل، ودخيلةً عليه. والمهم هو موقف عليّ رضي الله عنه، فهو من كانت تلك المظاهرة ضدّه، ومع ذلك فما شنع على الذين تَجمّعوا بدعوى حُرمة مجرد التجمع والمجيء للعراق، ولو كان تَجمّعهم وتوجههم للعراق منكرا، لأنكره عليهم عليٌّ رضي الله عنه. بل حتى لو أنكره عليهم، فيكفي أن يخالفه الزبير وطلحة وعائشة ومن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين لبيان أن مسألة مظاهرتهم مسألةٌ خلافية. هذا على افتراض أن عليا رضي الله عنه قد أنكر عليهم، وهذا ما لم يكن.
ولا يقدح في صحة الاحتجاج بهذا الحدث التاريخي الكبير ما ترتب عليه من مفسدة؛ لأن مفسدته الخاصة لا علاقة لها في صحة الاجتهاد الذي وقع من الصحابة في تجويزهم لأنفسهم القيام بهذا العمل، ولا يُلغي حقيقةَ أن من فقهاء الصحابة وسادة الأمة من أباح هذا العمل؛ ولأن مفسدته وقعت بأمر طارئ عليه ومن مفسدِين أرادوا الخروج به عن هدفه السِّلمي ( كما يقرره العَرضُ السُّنيُّ لهذا الحدَث).
ومع أن المظاهرات السلمية مشروعيتها لا تحتاج للاستدلال لها بهذا الحدَث التاريخي الشهير، لأن بابها الفقهي لا يحتاج لنص خاص (كما سبق)، فيأتي هذا الحدث يُوجِبُ على من يتبع السلف، ولو دون فقه، بأن يلتزم بعملهم الذي أباح المظاهرات السلمية.
ولا شك أن تقدير مصالح المظاهرة ومفاسدها يختلف من حال لحال ومن بلد لبلد ومن مظاهرة لمظاهرة. والبلد الذي تقبل أنظمته إقامة المظاهرات ليس كالبلد الذي بخلاف ذلك، فمفاسد المظاهرات في البلد الأول تقل، وفي الثاني تكثر.
وينبغي لكل حكومة إسلامية أن تُشرّع قوانينُها لوسيلةِ ضغطٍ عليها من الشعب؛ لأن في ذلك ضمانةً لها من الانجراف إلى انحرافٍ خطير، وهو انحرافُ الاستبدادِ؛ فالاستبدادُ ظلمٌ، والظلم ظلمات في الدنيا والآخرة، ولا تقوم الدول ولا تزول إلا بقدر عدلها.
وتشريعُ تقويم الشعب للحاكم تشريعٌ إسلاميٌّ ومنهجٌ راشِديٌّ، سبق إليه الخليفةُ الأول للإسلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه، حيث قال في أول خطبة له بعد تولّيه الخلافة: «أيها الناس، فإني قد وُلِّيتُ عليكم، ولست بخيركم. فان أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوّموني...»، إلى آخر هذه الخطبة الثابتة.
فها هو الخليفةُ الأول والصِّدِّيقُ الأكبر يأمر بتقويمه إن أساء، ليضع بهذا الأمر الراشِدي (الحكومي) أُسُسَ الرقابة الشعبية على الحاكم، وتشريعَ ضغطها عليه؛ لكي يُقوّمَ اعوجاجَه فيما لو احتاج إلى التقويم.
والخلاصة أن حكم المظاهرات السلمية: هو أن الأصل فيها الإباحة، ولا تكون محرمةً؛ إلا إذا ترتبت عليها مفسدةٌ أعظم من مصلحتها. وقد تكون واجبةً: وذلك إذا لم يُمكن إصلاحُ المفاسد إلا بها، دون أن يترتب عليها مفسدة أكبر.
وإطلاق القول بتحريمها في كل حال، ووصفها بأنها دائما تؤدي لمفاسد أكبر من مصالحها = شيءٌ لا يدل عليه الشرع: نَقْليُّه وعقليُّه، ويكذبه الواقعُ:
- فلا هناك نصٌّ خاص من نصوص الوحي (القرآن أو السنة) يدل على تحريم المظاهرات، فيلزم المسلمين التعبّدُ بالرضوخ له.
- ولا يرفضها العقل مطلقا، لعدم جريان العادة التي لا تتخلف بكونها مُفسدةً.
- والواقع يشهد بأن من المظاهرات ما أصلح ونفع وأفاد، ومنها ما هو بخلاف ذلك. فلا يصح ادّعاءُ أن واقعها يدل على تحريمها.
هذا هو حكم المظاهرات، كما تقرره أصول العلم وقواعده.
والله أعلم.
تتميمٌ (ذكره الشيخ جوابًا على أحد السائبين في صفحته في الفيس):
المظاهرة التي تختلط فيها الرايات والأهداف والغايات لا تخرج عن التأصيل السابق، خاصة إذا لم يمكن الإصلاح إلا بها: فإن كان إصلاحها أكثر من مفاسدها، فهي جائزة. هذا حكم المشاركة في هذه المظاهرة، وأما حكم المظاهرين فلكل حكمه: فلا يجوز لشخص أن يطالب إلا بحق مباح، ومشاركته في مظاهرة فيها حق وباطل ما دام إصلاحها أكبر من مفاسدها جائز بهذا الشرط، وهو أن لا يطالب هو إلا بالحق، ولا يجوز له أن يطالب بباطلها.
والتعاون مع المخالفين في إصلاح وإحقاق حقٍّ جائز؛ فقد استعان النبي صلى الله عليه وسلم بالكفار في حوادث كثيرة من السيرة.
تاريخ النشر : 1435/07/20 هـ
طباعة المقالة