تأصيل لبيان حكم تهنئة الكفار في أعيادهم
تأصيل لبيان حكم تهنئة الكفار في أعيادهم
الذي سبق ونشرته الصحف عني
في4صفر 1433هـ 30 ديسمبر، 2011م
مع زيادات يسيرة على المنشور السابق
الأصل في حكم التعامل مع الكافر غير المعتدي هو الإحسان , كما في قوله تعالى{ لاَّ يَنْهَٰكُمُ ٱللَّهُ عَنِ ٱلَّذِينَ لَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ فِى ٱلدّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دِيَٰرِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } .
والبر هو الإحسان , والقسط هو العدل .
ومن لطيف التعبير في هذه الآية الكريمة : أنها جاءت بنفي النهي عن الإحسان والعدل , وليس بالأمر الصريح بهما ؛ لأن الله تعالى يعلم أن الفطرة السوية التي فطرها سبحانه تميل إلى حب الإحسان والعدل مع غير المعتدي , فالنفوس الصحيحة تميل إلى ذلك بغير حث ولا تشجيع , ويكفيها بيان عدم النهي عنه ورفع التأثيم عليه لتسعى إليه وتعمل به . فجاء التعبير بعدم النهي , اكتفاء بدلالة الفطرة على حب هذا الفعل الفاضل !
مع أن الآية لم تخل من حث على البر وترغيب في القسط , من اسميهما نفسه (البر) و(القسط) , فهذان الاسمان المتضمنان وصفي الثناء هذين وحدهما يدلان على الترغيب فيهما والحث عليهما ، فمن لا يرغب في البر ؟! ولا يحب العدل والقسط ؟! وكذلك ورد الترغيب في خاتمتها , في قوله تعالى {إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ} ؛ إذ أيُّ حث أعظم من بيان حب الله لفعل من الأفعال ؟!
كما أن العدل قيمة ثابتة وواجب شرعي مع كل أحد , سواء أكان مسلما أو كافرا معتديا , فضلا عن غير المعتدي , كما قال تعالى{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ } .
ومن هذا الأصل : الإحسان بالقول , ويدل عليه أيضا على وجه الخصوص قوله تعالى { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسَنًا} , وعبارة (للناس) تعم المسلم والكافر من الجنس البشري كله . فهذا أمر بالقول الحسن للناس كلهم , دون تخصيص .
ومما ورد عن السلف في هذا الباب :
ما أخرجه الإمام البخاري بإسناد حسن في (الأدب المفرد) عن عقبة بن عامر (رضي الله عنه) : ((أنه مر برجل هيئته هيئة مسلم , فسلم , فرد عليه : وعليك ورحمة الله وبركاته . فقال له الغلام : إنه نصراني , فقام عقبة , فتبعه , حتى أدركه , فقال : إن رحمة الله وبركاته على المؤمنين , لكن أطال الله حياتك وأكثر مالك وولدك)) .
فمع أنه (رضي الله عنه) أراد أن يعرف هذا النصراني أنه غير مستحق للرحمة المطلقة ولا للبركة التامة , إلا أنه دعا له بطول العمر وكثرة المال والولد !!
وهنا لقائل (ممن ضعف فقهه في هذه الأبواب) أن يقول : هذا فيه دعاء للكافر بالتَّقوِّي على الكفر ؛ فزيادة ماله وولده مما يقويه على المسلمين , وفيه أيضا دعاء للكافر بأن يطول عمره على عداوة الله ورسوله بشركه وتكذيبه !!
ولن أجيب عن هذه الاستشكالات الفارغة , ويكفيني هنا : أن هذا هو فقه أحد فقهاء الصحابة ممن نزلوا مصر وفقهوا أهلها , ألا وهو عقبة بن عامر (رضي الله عنه) !!!
ولم تنته دروس الصحابة (رضوان الله عليهم) إلى هذا الحد :
فقد أتبعه الإمام البخاري بأثر آخر صحيح عن فقيه الأمة ومفسرها عبدالله بن العباس رضي الله عنهما , من حديث سعيد بن جبير عنه أنه قال : ((لو قال لي فرعون : بارك الله فيك , لقلت : وفيك . وفرعون قد مات)) . [يعني إن ابن عباس يقول ذلك مع العلم بنهاية فرعون وأنه قد مات على الكفر] .
ففي هذا الأثر يستجيز ابن عباس (رضي الله عنهما) الدعاء لفرعون بالبركة , خلافا لعقبة بن عامر !! وواضح من إيراد الإمام البخاري للأثرين أحدهما عقب الآخر : أنه يريد أن يبين الاختلاف الواقع فيهما : بين مستجيز الدعاء بالبركة للكافر : وهو ابن عباس (رضي الله عنهما), وغير مستجيز : وهو عقبة بن عامر (رضي الله عنه)!
فهل هذا كله من تمييع الدين ؟!!
وهل كنا سنحترم هذا الاجتهاد الجليل فيما لو ذكرته دون ذكر الصحابة القائلين به ؟!
لذلك كان الأصل في تهنئة الكفار في أعيادهم الجواز ؛ إلا إذا كانت على وجه الرضا بدينهم ، أو ترتبت عليها مفسدة دينية (كتوهم الرضا بكفرهم) . أما إذا لم يترتب عليها ذلك ، فالأصل فيها الجواز .
ومن أمثلة التهنئات التي لا تدل على الرضا عن الدين : أسعدك الله ، كل عام وأنت بخير ، بارك الله فيك ، عافاك الله وأكرمك وجمعك بمن تحب ، جعل الله أيامك سعيدة ....... إلى ما لا نهاية من التهنئات التي لا تدل على الرضا عن الدين .
وقد جاء في فتاوى شيخ الإسلام البلقيني (ت805هـ) ما يلي : «مسلمٌ قال لذمي في عيد من أعيادهم : عيد مبارك , هل يكفر ؟
الجواب : إن قاله المسلم للذمي على قصد تعظيم دينهم وعيدهم بحقيقة فإنه يكفُر ، وإن لم يقصد ذلك ، وإنما جرى ذلك على لسانه ، فلا يكفُر بما قاله من غير قصد» . فتاوى البلقيني (986) .
ولم تتضمن هذه الفتوى الحكم بجواز التهنئة مع عدم قصد تعظيم دين الكافر ، ولا التحريم ، ولكنها تضمنت التأصيل لبيان الفرق بين أمرين : تهنئة بقصد التعظيم ، وتهنئة أخرى تدل بلفظها على تعظيم الدين أيضًا لكنها صدرت من المسلم بغير قصد منه لذلك . ولم تتعرض الفتوى لحكم التهنئة إذا كانت لا تتضمن أصلا ما يدل على الرضا عن الدين . وفائدة هذه الفتوى :
أولا : التفريق بين قصد تعظيم الدين وعدم قصده ، فمع عدم القصد يكون اللفظ ممنوعا لكونه موهما التعظيم ، لكن لا يُكفَّر به المسلم .
ثانيا : النص على التهنئة التي توهم تعظيم الدين يدل على التفريق بينها وبين تهنئة لا تدل على ذلك .
ومما يدل على أثر النية والقصد فيما هو أعظم من مجرد التهنئة في العيد قول الإمام الذهبي (ت748هـ) في جزء التمسك بالسنن : «أما مشابهة الذمة في الميلاد، والخميس، والنيروز: فبدعة وحشة.
فإن فعلها المسلم تدينا : فجاهل، يزجر ويعلم .
وإن فعلها حبا [لأهل الذمة] وابتهاجا بأعيادهم فمذموم أيضا.
وإن فعلها عادة ولعبا، وإرضاء لعياله، وجبرا لأطفاله : فهذا محل نظر، وإنما الأعمال بالنيات، والجاهل يعذر ويبين له برفق، والله أعلم» (صـ 53).
فهذا كلام ظاهر بأن الأمر قد يخضع حكمه للعادات ودلالاتها فيما هو أعظم من مجرد تهنئة الكفار في أعيادهم ، وهو الاحتفال بها على وجه العادة ، لا التدين . فماذا سيكون حكم التهنئة في العيد ، بما لا يدل على الرضا عن الدين ؟!
أما دعوى الإجماع على تحريم مطلق تهنئة الكفار في أعيادهم الدينية فهي دعوى مستغربة , لعدم ورود نص فيها يلزم التسليم له (حتى لو لم نعرف علته) . فلا ورد في القرآن ولا جاء في السنة دليل خاص يدل على حرمة تهنئة الكفار في أعيادهم الدينية . مما يدل على أن الإجماع المنقول إذا تحقق ، فلا بد أن يكون مستندا إلى أصول شرعية عامة وقواعد يقينية معلومة ، وليس حكما تعبديا لا نعرف له علة ولا حكمة .
ولذلك فإني أستغرب ممن يدعي الإجماع على تحريم مطلق التهنئة ولو بلفظ لا يدل على الرضا بالدين كـ(كل عام وأنتم بخير) ، بل ربما كان صريحا بعدم الرضا ، كأن يهنئ المسلم شفاهة أو برسالة أو ببطاقة معايدة يكتب فيها : كل عام وأنت بخير ، وكم أتمنى أن تنعم بالإسلام ورحمته !
فأين هذه العبارة ونحوها من إيهام الرضا عن الدين ؟!! فإن أجازها أحد بهذا اللفظ : فقد نقض إطلاق تحريمه ، وعاد إلى تقييد التحريم بما يدل على الرضا بالدين . وإن حرمها بحجة أن تهنئة الكافر في عيده تدل على الرضا بالدين : أبطلت دعواه العبارة نفسها .
وما زال اليهود والنصارى وغيرهم يهنئون المسلمين بعبارات تهنئة عديدة في أعيادهم الدينية (الفطر والأضحى) ، ولا فهمنا من تهنئتهم لنا تركهم لدينهم ، ولا ظننا أنهم قد أحبوا ديننا لمجرد تهنئتهم لنا في أعيادنا ، بل فهمناها أنها حسن خلق وتلطف وغير ذلك من المعاني البعيدة كل البعد عن توهم تغييرهم أديانهم أو عدم التزامهم بها . فلماذا يتوهم البعض أن المسلم خاصة إذا هنّأ الكافر في عيده ، فقد دل ذلك على رضاه عن دينه ؟!
وأعود مستغربا ممن يدعي تحقق الإجماع السكوتي في مسألة لا نص فيها كما سبق , نعم .. أستغرب ممن لا يقبل قول العالم إلا بدليل ، ويعدّ اجتهاده من غير استدلال اجتهادا مرفوضا ، ثم هو نفسه يقبل منه ما هو أشد من مجرد الاجتهاد بغير استدلال ، وهو أن يزعم الإجماع . فما أن يدعي هذا العالم الإجماع حتى يصبح اجتهاده ليس فقط مقبولا بغير استدلال ، بل يصبح اجتهادا لا تجوز مخالفته ، وبغير استدلال أيضا ؛ إلا من دعواه الإجماع !
فكيف يكون اجتهاد العالم مردودا بغير استدلال ، في حين أنه هو نفسه سيكون اجتهاده مقبولا وواجبا بل سيكون ملزما غيره مع أنه مازال اجتهادا بغير استدلال أيضا ، إلا من دعواه الإجماع ؟!
إن تحقيق الإجماع وإثبات حصوله كما أنه سياج مهم يحمي الشريعة من تطاول شطحات الاجتهاد ، خاصة عند شيوع الجهل واتخاذ الرؤوس الجهلاء . إلا أن السماح لدعاواه التي لا دليل عليها ، يفتح مجال التشريع بما لم يأذن به الله ، ويضيف إلى مصادر التشريع مصدرا لا علاقة له بالوحي ولا بمصادر التشريع المجمع عليها ؛ إلا من دعوى عدم العلم بالمخالف ، حتى في الأمر الذي ليس فيه نص ، ولا هو مما يستحيل عادة عدم نقل خلافه لو وقع ، ولا توجب غلبة الظن نقله في أقل تقدير .
وهنا في مسألة حكم تهنئة الكفار في أعيادهم الدينية : أتمنى أن يذكر لي المتعصبون للتحريم سلفهم عليه من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، حتى ننظر هل هناك قول صحيح ومشتهر لهم في المسألة ، مع عدم العلم بمخالفهم ؟
أعيد التحدي بصورة واضحة : بعد الاتفاق على عدم وجود نص صريح في الكتاب والسنة يدل على حرمة تهنئة الكفار في أعيادهم , هل هناك آثار عن الصحابة أو التابعين أو تابعيهم تدل على تحريم هذه التهنئة (لا على حضور الأعياد وشهودها , فهذه مسألة غير مسألة التهنئة) ، تدل على شهرة هذه المسألة بينهم ، مما يصح بعد عدم وجود المخالف أن ندعي الإجماع عليها .
أما المطالبة بإيجاد نص عن السلف بالإباحة مع عدم وجود نص عنهم على التحريم ، فهو جهل بطرائق الاستدلال ؛ لأن على مدعي الإجماع البينة على دعواه ، وإلا فستكون دعواه باطلة ، وترجع المسألة بعد بطلان الإجماع إلى النصوص العامة وأصول الشريعة لاستخراج حكمها منها .
وهنا أنبه أنه لو كان هناك من حرم التهنئة من السلف ، فمجرد الوجود لا يدل على حصول الإجماع ؛ فإن عدم العلم بوجود من أباحها لا يدل على عدم وجوده في الواقع (عدم العلم لا يدل على العدم) ، خاصة في مثل هذه المسألة ، التي تفتقر للنقل فيها لمن قال بالتحريم من السلف ، والذي لا بد أن يكون نقلا يدل على شهرة هذا القول بينهم ، حتى يمكن الاستدلال بعدم وجود المخالف على عدم وجوده , ظنا غالبا أو يقينا .
فللإجماع السكوتي شرط لصحة الاحتجاج به ، وهو غير متوفر في هذه المسألة ! فيكفيك ضعف النقل فيها في جانب التحريم الذي تدعي عليه الإجماع .
****
وأما كلام ابن القيم الذي جعله المتعصبون للتحريم دليلا لتعصبهم (لا لترجيحهم) فهو قوله في كتابه (أحكام أهل الذمة) :
((فصل في تهنئتهم بزوجة أو ولد أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه ونحو ذلك :
وقد اختلفت الرواية في ذلك عن أحمد ، فأباحها مرة ، ومنعها أخرى .
والكلام فيها كالكلام في التعزية والعيادة ، ولا فرق بينهما .
ولكن ليحذر الوقوع فيما يقع فيه الجهال من الألفاظ التي تدل على رضاه بدينه , كما يقول أحدهم : متعك الله بدينك أو نيحك فيه ، أو يقول له : أعزك الله أو أكرمك . إلا أن يقول : أكرمك الله بالإسلام ، وأعزك به ، ونحو ذلك ، فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة .
وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق ، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم ، فيقول : عيد مبارك عليك ، أو تهنأ بهذا العيد ، ونحوه ، فهذا إن سلم قائله من الكفر ، فهو من المحرمات ، وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب ، بل ذلك أعظم إثما عند الله وأشد مقتا من التهنئة بشرب الخمر وقتل النفس وارتكاب الفرج الحرام ونحوه.
وكثير ممن لا قدر للدين عنده ، يقع في ذلك , ولا يدري قبح ما فعل .
فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه .
وقد كان أهل الورع من اهل العلم يتجنبون تهنئة الظلمة بالولايات وتهنئة الجهال بمنصب القضاء والتدريس والإفتاء تجنبا لمقت الله وسقوطهم من عينه وإن بلي الرجل بذلك فتعاطاه دفعا لشر يتوقعه منهم فمشى إليهم ولم يقل إلا خيرا ودعا لهم بالتوفيق والتسديد فلا بأس بذلك وبالله التوفيق)) .
انتهى كلامه (رحمه الله) , وهو صحيح لا إشكال فيه , لمن وفقه الله في فهمه بما يوافق الصواب .
وإن كان كلامه يدل على مطلق التحريم ، دون تفصيل ، فهو خطأ منه ، ولا نخشى من تخطيئه ، خاصة مع حكاية الإجماع على قوله .
فهو أولا : يتكلم عن تهنئة الكافر بعيده الديني ، لا في عيده الديني . والتهنئة بالعيد تدل على الرضا بالدين ، أما التهنئة في العيد فلا يلزم منها ذلك .
وأنبه أيضا أن قوله : « فمن هنأ عبدا بمعصية أو بدعة أو كفر فقد تعرض لمقت الله وسخطه» ، كلام صحيح فيمن هنأ على ذلك ، لكن ما نتكلم عليه هو تهنئته على غير المعصية ، وإنما هو تهنئته بسعادته وفرحه في عيده ، ولذلك نشترط أن لا تكون التهنئة على الكفر أو توهم بذلك .
ثانيا : لكي نحاول تأويل عبارة ابن القيم لتوافق الصواب (مع أننا لسنا مضطرين لذلك ؛ لأن كلامه ليس حجة ، ولا نقله الإجماع بحجة بغير حجة تدل على وقوع الإجماع) ، أقول :
التنبيه الأول : تنبه لتفريق ابن القيم بين اللفظ الدال على الرضا بالدين والدال على عدم الرضا , وتفصيله بناء عليه حكم المسألة في التهنئة بزوجة أو ولد أو قدوم غائب أو عافية أو سلامة من مكروه ونحو ذلك . مما يدل على صحة هذا الأصل في حكم تهنئة الكفار , وأنه ليس تفصيلا مبتدعا ولا مبتورا عن أصول الدين .
التنبيه الثاني : أن ابن القيم لما نقل الاتفاق على تحريم التهنئة بأعياد الكفار الدينية علل ذلك بأنه يدل على التهنئة على الكفر ، ومعنى ذلك أن هذا هو سبب التحريم عنده .
والحق أن هذا التعليل حتى لو لم يذكره ابن القيم للزم أن نذكره نحن دليلا لصحة قوله ؛ لأنه لا دليل على التحريم سواه أصلا ، كما سبق !
وحينئذ أقول : لا يقول قائل إن قول المسلم للكافر في عيده الديني : ((أسعدك الله ومتعك بالعافية وهداك للتصديق بالإسلام)) فيه تهنئة له بالكفر ويدل على الرضا عن دينه . ولا يقول عاقل أيضا : إن هذه العبارات ليست تهنئة , فقد قال ابن القيم (الذي احتجوا بكلامه على مطلق التحريم) : ((إلا أن يقول أكرمك الله بالإسلام وأعزك به ونحو ذلك , فهذا في التهنئة بالأمور المشتركة)) . إذن فابن القيم لا يحرم مطلق التهنئة في أعياد الكفار ، وإنما يحرم التهنئة بالعيد الديني ؛ لأنها توهم الرضا عن دينه .
التنبيه الثالث : تعليل ابن القيم بذلك التعليل يجعل التهنئة التي لا تدل على الرضا بالدين غير داخلة أصلا في كلامه , ولا فيما نقل الإجماع عليه .
وعليه : فيبقى النقاش بعد هذا التقرير حول عبارات التهنئة : هل يمكن أن لا تدل على الرضا عن الدين والتهنئة بالكفر ؟ أم لا يمكن فيها ذلك ؟ فإن أمكن , بنحو العبارات السابقة من التهنئة بالأمور المشتركة ، بل المضموم إليها دعوته للإسلام ، يكون ادعاء استحالة وجود تهنئة للكفار في أعيادهم لا تتضمن الرضا عن دينهم ادعاءً باطلا مخالفا للواقع ، وهذا هو الواقع !
والخلاصة : يجب التفريق بين تهنئة الكافر في عيده الديني وتهنئته بعيده الديني ! فالتهنئة بالعيد الديني لا تجوز ، والتهنئة في العيد الديني تجوز إذا لم تدل على الرضا عن الدين .
***
مفاصل الحكم في تهنئة الكفار بعيدهم التي ذكرتها في مقالي القديم
مفاصل الحكم في تهنئة الكفار في عيدهم التي ذكرتها في مقالي القديم :
أولا : ليس هناك نص في الكتاب والسنة يمنع أو يجيز هذا الأمر ، مع وجود الدواعي إليه ، لوجود أهل الكتاب في المدينة منذ زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) . مما يشهد أن هذا الأمر من أمور العادات التي لا يلزم فيها ورود نص خاص ، وأن حكمه يندرج تحت أصول عامة في الشريعة .
ثانيا : لم يرد عن السلف من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين والأئمة المتبوعين (أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد) نص حول حكم تهنئة الكفار في أعيادهم ، وورد عنهم كلام حول شهود أعيادهم وحضورها ، وحول بيع المسلم وشرائه من الأسواق التي يقيمها أهل الذمة لأعيادهم ؛ أما حكم التهنئة بالأعياد : فلم يرد عن أحد من هؤلاء .
ولا زعم المانعون ذلك ، ولا أورد المحرمون نصا عن أحد من السلف يخص التهنئة ، ولا عن أحد أئمة المذاهب الأربعة .
وهذا يدل أيضًا أن الأمر من أمور العادات ، ولا يُتصور عدم قيام المقتضي للكلام في هذه المسألة مع كثرة أهل الذمة بعد الفتوح الإسلامية ، واشتهار أعيادهم كالفصح والشعانين والنيروز والمهرجان ، ومع قيام أسواق لها ، وغيرها من بعض مظاهر الاحتفال بها ، مما يؤكد أن الأصل فيها الإباحة ؛ لأنها من أمور العادات .
وأمور العادات الأصل فيها الإباحة (كما هو مقرر عند العلماء) إلا أن يأتي دليل يدل على التحريم : من نص أو أصل يدل على الحرمة ، وهذا الدليل لم يتوفر هنا ، فلا نص فيها ، والأصل المزعوم من دلالة التهنئة بالإقرار على الدين أو إيهام الإقرار لا يصح ؛ لأن من التهنئة ما لا تدل على الإقرار لغة ولا تدل عيه عرفا .
ثالثا : شيءٌ لا يوجد فيه نص من كتاب الله ، ولا من سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، ولا توجد فيه عبارة واحدة عن السلف ولا عن الأئمة المتبوعين = كيف يُزعم فيه الإجماع ؟! إجماع من ؟! من ليس له كلام أصلا ؟!! وما مستند الإجماع ؟! ولا نص عليه من الكتاب والسنة .
رابعا : لا تصح حكاية الإجماع في مثل هذا الأمر ؛ إلا على معنى أنه يندرج اندراجا قطعيا تحت أصل يقيني من أصول الشريعة . وهذا ما حاولت إرجاع كلام ابن القيم إليه ليكون صوابا ، وإلا فكلامه خطأ ، ولا حقيقة لدعواه الإجماع ، مع عدم وجود نص ولا كلام للسلف وللأئمة الأربعة . فمن أين عرف ابن القيم الإجماع ، لولا إرجاعه لمعنى كلي .
(تنبيه : لولا أن المدعَى هو الإجماع لما اشترطت الاندراج القطعي في الأصل ، ولذلك اكتفيت عند الكلام عن مجرد التحريم - بلا ادعاء إجماع - بمجرد غلبة الظن على الاندراج تحت الأصل ، دون دعوى الإجماع : التي اشترطت لها الاندراج القطعي ؛ لأن الإجماع يرفع الخلاف ، ولا يُرفع الخلاف بظني لا يمنع من الاختلاف)
خامسا : بين ابن القيم المعنى الكلي الذي بنى عليه حكاية الإجماع ، فسيكون هذا هو مناط الحكم : الرضا عن دين الكفار ، أو إيهام الرضا عن دينهم .
وسيكون السؤال التالي : هل يمكن أن توجد تهنئة لا تدل على الرضا عن دين الكفار ؟ أم كل تهنئة في أعيادهم يلزم منها الدلالة على الرضا عن دينهم ؟
هذا هو مناط الحكم ، لا غير .
وعندها سيتبين أن من زعم أن كل تهنئة يلزم منها الدلالة عن الرضا عن الدين أن يخرق حجاب الهيبة ويتبع سبيل المكابرة والعناد ؛ إذ قطعا : ليست كل تهنئة تدل على الرضا عن الدين ، فلا زال النصارى وغيرهم يهنئون المسلمين في أعيادهم الدينية ، ولا فهم المسلمون أن هذه التهنئة دالة على رضاهم عن دين الإسلام !
ثم لو قال المسلم للنصراني : «كل عام وأنت بخير ، وأسأل الله أن يهديك للإسلام ، الذي لا يقبل الله دينا سواه » ، هل ستكون هذه تهنئة ؟ وهل ستكون دالة على الرضا عن النصرانية ؟
- لا يستطيع عاقل أن يقول : إنها ليست تهنئة ، فالتهنئة هي كل دعاء بالخير لمناسبة تخص الشخص الذي نهنئه .
- ولا يستطيع عاقل أن يزعم أنها تدل على الرضا عن النصرانية ، وهي صريحة بعدم الرضا عنها .
ولذلك لن يستطيع عاقل أن يقول إن هذه التهنئة تدل على الرضا عن دين الكفار .
وما دامت كذلك ، ما هو الأصل الذي يندرج تحته الحكم بالتحريم ، عند من يحرمها ؟!
أكرر هذا الكلام بصيغة مختلفة عما ورد في التقرير القديم ؛ لأن التكرار ينفع الأفكار !!
***
وبعد هذه النشرة سأل سائل قائلا :
«فإن قال قائل : و هل سيتقبل مني نصراني في عيده ان اقول له أسأل الله أن يهديك للإسلام ، الذي لا يقبل الله دينا سواه ؟»
فأجبته بقولي : أولا : اعترف بأن هذه تهنئة ، ولا تدل على الرضا عن الدين ، وأن حكاية الإجماع لا بد من أن تُفهم على هذا = ثم كرر السؤال .
فعاد السائل قائلا : « اعترف انها لا تدل عن الرضا عن الدين ان لم يكن لي ثواب في قول ذلك لكن من يستطيع ان يهنيء نصراني بهذه الصيغة ؟» .
فأجبته قائلا : إذن انتهينا أن من التهنئات ما ليس حراما ، ثم نأتي بعد ذلك للصيغ التي تدل عن الرضا والتي لا تدل .
إذا هنأك النصراني في عيدك بقوله لك : كل عام وأنت بخير ، هل ستفهم من ذلك رضاه عن الإسلام ؟
فالنصارى وغيرهم ما زالوا يفعلون ذلك فير بلاد المسلمين وغيرها ، وما فهم منهم ذلك أحد . فلماذا ندعي فهما مختلفا من المسلم لا تدل عليه اللغة ولا العرف ، في حين لا ندعي هذا الفهم إذا وقعت التهنئة من الكافر للمسلم ؟!
فأقر السائل مشكورا واقتنع .
***
ثم بدأ أحد المتابعين بإبداء رأيه قائلا :
(( شيخنا الفاضل...أوافقك أنّ التهنئة لا تعني بالضرورة الرضا عن دينهم ولكن لعلك أبعدت النجعة في حصر المسألة في دائرة الحرمة وتحديد مناط الحكم بالرضا عن دين غير المسلمين ولا أدري سبب خفاء ذلك عليك ولكن لعل ذلك خفي علي...فأنت تعلم أنّ حكم التهنئة بأعياد الكفار فيها تفصيل ولا يطلق الحكم فيها...فإن كانت التهنئة بأعياد لا تتعلق بدينهم فالحكم عند أهل العلم يتراوح بين الجواز والكراهة أما إن كانت التهنئة بشعائرهم الكفرية فهي حرام باتفاق - فإن كانت عن رضا فهي مخرجة من الملة وإن كانت دون رضا فالحكم يصبح في دائرة الحرمة ونصوص ساداتنا الأكابر من الشافعية وغيرهم من المذاهب الأربعة مشهورة ولا أظنها تخفى عليك...ومنها ما قاله ابن القيم رحمه الله في " أحكام أهل الذمة " (1/205) : "وأما التهنئة بشعائر الكفر المختصة به فحرام بالاتفاق ، مثل أن يهنئهم بأعيادهم وصومهم فيقول : عيد مبارك عليك أو تهنأ بهذا العيد ونحوه فهذا إن سلم قائله من الكفر ، فهو من المحرمات وهو بمنزلة أن يهنئه بسجوده للصليب .. وكثير ممن لا قدر للدين عنده يقع في ذلك " والدميري في النجم الوهاج في شرح المنهاج ذكر "يُعزّر من وافق الكفار في أعيادهم ، ومن يمسك الحية ، ومن يدخل النار ، ومن قال لذمي : يا حاج ، ومَـنْ هَـنّـأه بِـعِـيـدٍ" ...هل فيما قلت خلاف ما أشرت أنت إليه؟)) .
فأجبته بقولي :
أولا : الدميري يتكلم عن التهنئة بالعيد ، لا عن التهنئة في العيد بما لا يدل على أنها تهنئة بدينه ، وهذا صريح لفظه وتعليله .
ثانيا : الدميري لم يقيد العيد بكونه دينيا أو لا ، وأطلق القول . مما يعني أن كلامه عندك يجب أن يكون غير دقيق ؛ لأنك تقيد كلامه بالعيد الديني خاصة . ومما يعني أيضا أن من استدل به لا بد أن يؤوله ، ليكون صوابا . فأنت تريد تأويله على العيد الديني، وانا أستدل لكون الصحيح فيه أن يهنئهم بما يُفهم منه الرضا عن الدين .
هذا فضلا عن كون كلام الدميري وغيره ، لا يمكن أن يُستشهد به ، فضلا عن أن يستدل به ، بمعزل عن أدلته من مصادر التشريع .
ثانيا : هناك تهنئة عن رضا بدين الكفار ، وهذه كفر ؛ لأن الباعث إليها كفر . وهناك عبارة قد يُفهم منها الرضا ، أي تحتمله بغلبة ظن (بدلالة لغوية أو عرفية) ، وهذه هي المحرمة ، والتي رأى الدميري التعزير فيها . ذلك أن التكفير بغلبة الظن لا يجوز ، لأن من دخل الإسلام بيقين لم يُخرج منه بغير اليقين .
وقد غفلت أنت في تقريرك عن الفرق بين هذا المعيار في حكم المسألة ، فليس معيار التفريق محصورا في العيد الديني وغير الديني ، بل أيضا يؤثر في الحكم كونه راضيا أو غير راض وإن أوهمت عبارته الرضا .
ثالثا : وهنا يأتي السؤال الذي كررتُه مرات : إذا هنأ المسلم الكافر في عيده الديني تهنئة لا تدل على الرضا عن الدين ، بل ربما كانت قاطعة على عدم الرضا ، ما سبب التحريم عند من يحرمها ؟! إن قال الإقرار ، قلنا : ليس هناك إقرار ، في مثل عبارته القاطعة بعدم الإقرار. وإن قال : هي بمنزلة التهنئة بالسجود للصنم (كما قلت أنت) ، قلنا هذه مغالطة ؛ لأن الذي يقول لمن سجد لصنم : أهنئك على سجودك ، فقد دل لفظه هذا على إقراره ، ونحن إنما نتحدث عن تهنئة لا تدل على الإقرار .
وأعود وأكرر ما كررته مرات : ألا يهنئنا الكفار في أعيادنا الدينية (الفطر والأضحى) ، فهل لزم من ذلك أو فهمنا منه رضاهم عن ديننا أو إقرارنا على صوابيته ؟! فكيف أصبحت تهنئتنا لهم خاصة دالة على الإقرار دون تهنئتهم هم لنا ؟!
أخيرا : حكيت إجماعا على أمر لا دليل عليه ، ولا تكلم فيه أحد من أئمة المذاهب الأربعة . وأما الإيهام بعبارات فضفاضة ، كقولك : «ونصوص ساداتنا الأكابر من الشافعية وغيرهم من المذاهب الأربعة مشهورة ولا أظنها تخفى عليك» ، فلا فائدة منها هنا ؛ لأنها أولا ليست نصوص أصحاب المذاهب من أئمتها الأربعة ؛ ولأنها كالعبارة التي استشهدت بها ، لا تدل على ما تريد .
فعاد السائل قائلا :
شيخنا الفاضل، لعل صدركم يتسع لبعض الملاحظات: أولاً: الدميري لم يطلق القول بل خصصه فحكمه متعلق بمجرد موافقة الكفار في أعيادهم وتهنأتهم، وهو يشمل الأعياد الدينية وغير الدينية ولكن قوله "يعزر" أخرج الأعياد الدينية والذي هو أصلاً خارج محل النزاع فالموافقة في الأعياد الدينية حرام باتفاق عند الشافعية وغيرهم، بل وقد يصل إلى الكفر بغض النظر كمن لبس الزنار، وعليه فموافقة وتهنئة الكفار بأعيادهم مع الرضى بكفرهم خارج محل النزاع فلا داع لتكراره..ثالثاً: محل النزاع في التهنئة دون الرضى عن دين الكفار...وهنا يكون الحكم الحرمة إن كان في عيد غير ديني (كما ذكر ابن القيم وغيره) والكراهة أو الجواز أو الحرمة (على خلاف بين أهل العلم) إن كان في عيد غير ديني، فهل لكم سلف فيما ذكرتم من الحكم بالجواز؟ وعلى أصول أي مذهب استنبطتم الحكم؟ رابعًا: قولك: "وإن قال :هي بمنزلة التهنئة بالسجود للصنم (كما قلت أنت)" فيه خطأ فهذا قول ابن القيم وليس من كلامي. خامسًا: قولك أنّ تهنئة غير المسلم لنا في أعيادنا الدينية لا يعنى موافقته لنا هو أمر لا يسلم لك في على إطلاقه ولك العذر في ذلك..فالأ/ر كما قلت في بلاد العرب ولكن من أساسيات الثقافة الغربية والنظام التعليمي في الغرب هو "احترام" المعتقد المخالف ويستلزم ذلك تقبله دون اعتراض وعليه تكون التهنئة من باب احترام المعتقد المخالف فلا وجه لقياس ما ذكرت على ذالك.....وليس في كلامي عبارات فضفاضة - بارك الله بك - بل هو ما أجده في كلامك....وآخيراً: ألا ترى من التعسف أن تختزل المذاهب الأربعة في أقوال أئمة المذاهب الأربعة والمعلوم أنّ المذهب عبارة عن نتاج فكري وعلبمي وتحقيق وضبط على مدى قرون حتى استقرت الأحكام فيها والتي بنيت على أصول مذهب إمام المذهب؟! لذا لحصر النزاع: هلا تفضلت بذكر أصول المذهب الذي بنيت عليه قولك؟ ومن هو سلفك في المسألة من علماء المذاهب الأربعة؟
فأجبته بقولي :
تقول :« أولاً: الدميري لم يطلق القول بل خصصه فحكمه متعلق بمجرد موافقة الكفار في أعيادهم وتهنأتهم، وهو يشمل الأعياد الدينية وغير الدينية ولكن قوله "يعزر" أخرج الأعياد الدينية والذي هو أصلاً خارج محل النزاع فالموافقة في الأعياد الدينية حرام باتفاق عند الشافعية وغيرهم، بل وقد يصل إلى الكفر بغض النظر كمن لبس الزنار، وعليه فموافقة وتهنئة الكفار بأعيادهم مع الرضى بكفرهم خارج محل النزاع فلا داع لتكراره» .
والجواب : ألا تلحظ مقدار المصادرة والاحتجاج بمحل النزاع هنا : «فالأعياد الدينية خارج محل النزاع أصلا» .. هكذا ، دون دليل ؛ إلا أنك تزعم ذلك . فهي محل النزاع أصلا : تذكّرْ أنك أنت تزعم الاتفاق عليها ، وأنا أزعم أنها من المباحات التي لا يلزم التنصيص على إباحتها ؛ لأنها تندرج تحت أصول عامة تجعل الأصل في أمور العادات الإباحة ، ما لم يأت ما يدل على حرمتها .
فإن كنت مقلدا في فهم الإجماع المحكي ، بغير دليل على صحة هذا الإجماع ؛ إلا وجود من ادعاها ، فهذا التقليد لا يلزم غيرك .
فالدميري أطلق القول بالمنع ، ولم يقيد العيد بالديني ، وأنت جئت تقيده ، وأنا كذلك جئت أقيده . فرجعت أنت تحتج بدعوى الإجماع التي لا دليل عليها ، فلا نص عليها من الوحي يوجب الإجماع ، ولا أثبت لي وجود نصوص للأئمة الأربعة ونحوهم من أهل جيلهم ، لكي يثبت بوجود أقوال لهم أن هذا القول أو ذاك هو قول للجمهور .. في أقل تقدير ، إن لم يكن إجماعا . بل رجعت من جديد إلى تسليمك الذي تفترض أن يسلم لك فيه الناس بغير حجة ؛ إلا بالدعوى .
وما زلت تخلط بين المشاركة وحضورالأعياد ومجرد التهنئة ، مع وجود الفرق ! وتخلط بين تهنئة بالعيد وتهنئة في العيد !!
أما مطالبتك بالسلف فغريب جدا ، ويدل أنك لا تعرف متى تصح المطالبة بالسلف ومتى لا تصح ! فما كان الأصل فيه الإباحة : لا يُطالب فيه بالسلف ، وإلا لطالبنا بسلف في كثير من المطعومات والملبوسات والعادات المستحدثة !!
وكنت قد كررتُ لك كلاما كان يجب أن يستوقفك : وهو أن عدم وجود كلام للسلف كلهم وللأئمة الأربعة ينص على تحريم التهنئة من أكبر الأدلة على أن الأصل فيها الإباحة ؛ لأن الوجود الكبير لأهل الذمة في بلاد المسلمين منذ عهد الخلفاء الراشدين (بعد الفتوح) ، واحتفالهم بأعيادهم ، ودخول كثيرين منهم في الإسلام ممن يجهل أحكامه ، كان يوجب التنصيص على حرمة التهنئة ، لكي يعرف الناس الحكم . خاصة أن السلف تكلموا عن حضور الأعياد ، وعن المشاركة في أسواق الأعياد بيعا وشراء ، وعن غير ذلك مما يتعلق بالمشاركة فيها ، ولا نجد لهم مع ذلك كلاما عن التهنئة ! فعدم وجود نص لهم طوال هذه القرون من أكبر الأدلة على أن الحكم هو الإباحة بناء على الأصل : وهو أن ما سوى العبادات الأصل فيها الإباحة ؛ حتى يأتي الناقل عن هذا الأصل .
وأعجب غاية العجب ممن جعل عدم ورود أي كلام للسلف دالا على الحرمة !! فهذا قدر من انعكاس الاستدلال ، لا أستطيع إلا أن أبدي معه عجبي الشديد من الجرأة على التفوه به !!
لقد عهدنا من يزعم الإجماع السكوتي ، ويستدل لوقوعه بمجرد ورود كلام أحد السلف ، مع عدم وجود كلام لغيره بالموافقة أو المخالفة ، وكان هذا المنهج للاستدلال للإجماع السكوتي محل استهجان ، ولا يلتزم به التزاما مطلقا أحد من الفقهاء ، فلا يوجد أحد من الفقهاء يدل تطبيقه العملي على أن كل قول لا يُعرف له مخالف أنه إجماع .. هكذا بإطلاق ؛ لأن هذا المنهج لإثبات الإجماع السكوتي منهج باطل ولا شك .
أما أن يُدعى الإجماع ، مع عدم وجود أي قول أصلا ، ومع عدم الاندراج القطعي تحت أصل قطعي ، فهذا منهج بديع في الاستدلال ، لم يُسبق إليه مدّعيه . وهو من أحسن صور الكذب في دعاوى الإجماع ، حسب تعبير الإمام أحمد في عبارته الشهيرة : «من ادّعى الإجماعَ فقد كذب ، هذه دعوى الـمَرِيسي والأصمِّ» .
ثم تقول : «رابعًا: قولك: "وإن قال :هي بمنزلة التهنئة بالسجود للصنم (كما قلت أنت)" فيه خطأ فهذا قول ابن القيم وليس من كلامي» .
هذا دليل أنك تحتج بكلام من كلامه ليس حجة ، فإن كنت مقلدا لابن القيم ، فلا تجادل من لا يقلده .
هذا أولا .
وثانيا : ابن القيم يتكلم عن التهنئة بالعيد الديني ، ولم يتكلم عن التهنئة فيه ، بما لا يدل على الرضا بالدين .
وثالثا : ردي كما صلح عليك ، يصلح في مناقشة كلام ابن القيم : فأقول لابن القيم : أليس هناك فرق بين قول المسلم للنصراني في عيد رأس السنة : «كل عام وأنت بخير» وقوله له إن سجد لصنم : «أهنئك على سجودك» ؟ ألست معي أيها الإمام : أن العبارة الأولى صريحة في الرضا عن الشرك ، بخلاف الثانية . فكيف تقيس الأضعف على الأقوى ؟! مع أن العكس هو الصحيح في الاستدلال ، وهو (أن تقيس الأقوى في الدلالة على الأضعف ، إذا كان النص قد دل على حكم الأضعف ، فيكون تناوله للأقوى من باب أولى) ، أما قياس الأضعف دلالة على الأقوى فهو قياس مع الفارق المؤثر ؛ لأن هذا الضعف قد يؤثر في الحكم ، ولا يسمح بتصحيح القياس .
ثم ماذا سيقول ابن القيم لو كانت تهنئة المسلم كقوله : «كل عام وأنت بخير ، وأسأل الله أن يهديك للإسلام» ؟! هل هناك وجه شبه بينها وبين نهنئة الكافر على سجوده لصنم ؟!!
رابعا : وهذا التشبيه وغيره هو ما جعلني أحمل كلام ابن القيم على أنه يحكي الإجماع على تحريم التهنئة التي توهم الإقرار على الدين الباطل ؛ لأن غير هذا الحمل سيجعل نقل الإجماع دعوى بغير أي مستند .
ثم تقول : « خامسًا: قولك أنّ تهنئة غير المسلم لنا في أعيادنا الدينية لا يعنى موافقته لنا هو أمر لا يسلم لك في على إطلاقه ولك العذر في ذلك..فالأ/ر كما قلت في بلاد العرب ولكن من أساسيات الثقافة الغربية والنظام التعليمي في الغرب هو "احترام" المعتقد المخالف ويستلزم ذلك تقبله دون اعتراض وعليه تكون التهنئة من باب احترام المعتقد المخالف فلا وجه لقياس ما ذكرت على ذالك» .
واسمح لي أن أقول لك : ما هذا التحايل والتحذلق المفضوح ؟!
تقول : « هو أمر لا يسلم لك في على إطلاقه» ، هل تعني أنه يسلم لي بقيد ، اذكر هذا القيد ، لتخالف إطلاق التحريم الذي كنت عليه !
أما بقية الكلام فعجب ! فاسأل الناس في البلاد العربية ، من كان له جار نصراني ، وعلاقته به تقوم على حسن الجوار ، فإذا قال له النصراني في الفطر أو الأضحى : كل عام وأنت بخير ، هل سيفهم أحد منهما أنه أسلم أو كاد ، أم هي مجرد مجاملة وحسن خُلق ومن باب حسن الجوار .
ثم كلامك يقتضي جواز التهنئة باختلاف الأعراف ، فهل تقول به ، أم ما زلت على إطلاق القول بالمنع ، مع خلافه لتقريرك هنا .
أما كلامك الأخير عن اختزال المذاهب الأربعة فهو فهم خاطئ لكلامي ، ولا أدري ما هو سبب الوقوع فيه ؟! لأنني إنما طالبت بأقوال أئمة المذاهب ومن عاصرهم من أئمة السلف منذ الصحابة ، لأبين لكم أن دعوى الإجماع لا تصح ، بعد مرور هذه الأجيال ، وبعد مرور الأئمة الأربعة مع الحرص على تدوين مقالاتهم ، دون أن تجدوا لهم عبارة تدل على التحريم المطلق . مع عدم وجود نص من الوحي ، ولا وجود وجه من استدلال اجتهادي قياسي .
فالذي أريده من بيان فقدان أقول لأئمة المذاهب أن أبين أن دعوى الإجماع لا تقوم على دليل ، فلا أعرف مسألة إجماعية لا كلام للسلف فيها البتة ، ولا لأئمة المذاهب ؛ إلا أن تكون مندرجة اندرجا قطعيا تحت أصل شرعي قطعي . وهذه الصورة (وهي تهنئة الكفار بما لا يوهم الإقرار على الدين) لا تندرج تحت أي أصل ؛ إلا إن كانت التهنئة توهم الإقرار عن الدين ، فعندها تندرج تحت أصل يدل على المنع والتحريم . أما بغير هذا الاندراج ، فلا دليل على المنع ؛ إلا كلام عالم من هنا وعالم من هناك ، ويقوم على دعوى الإجماع بلا مستند ، مما هو محل النقاش أصلا . فكيف يقبل متفقه حقا هذا الادعاء ؟! إلا إن كان مجرد مقلد ، فهو معذور ، لكن مثله لا يجادل .
أما الرابط الذي أحلت إليه : فسوف تجد الرد عليه ونقضه في كلامي هنا وفي المواطن الأخرى التي تعرضت فيها لهذه المسألة .
ومع أنك تكتب باسم لا يبين عن شخصك ، فقد عاملتك أنك طالب علم يريد الفائدة ، وإلا تكرار الخطأ ، والمراء المتكرر منك ، كان يوجب عدم الالتفات إليك .
***
قصة حوار مع طالب علم حول هذه المسألة :
المكابرة والتعالي على الحق خلقان ذميمان ، وما أذمهما إذا اتصف بهما طالب العلم !
قبل سنوات قليلة ، عندما قررت جواز تهنئة الكافر بعيده ، بشرط أن لا يُفهم من التهنئة الرضا عن الدين ، ادعى أحد طلبة العلم الرد عليّ ، واستدل في رده بعدم جواز بدء الكافر بالسلام ، وذكر أنه إن لم يجز بدؤه بالسلام ، فمن باب أولى التهنئة بالعيد !
فرددت عليه حينها بأمور ثلاثة :
الأول : أن في حكم بدء الكافر بالسلام خلافا بين الصحابة (رضوان الله عليهم) فمن جاء بعدهم من العلماء والأئمة ، حتى قال الإمام الأوزاعي عبارته الشهيرة : «إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون» . ولئن استدل المانعون بحديث ، فقد استدل المبيحون بآيات {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} ، وفي قصة إبراهيم (عليه السلام) مع أبيه { قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} ، وقال تعالى {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} .
والمعنى : ليس هناك اتفاق على منع البدء بالسلام ، حتى يكون دليلا على تحريم التهنئة ؛ خاصة والخلاف معتبر وجيه ، كما هو ظاهر من أدلته ، ومن كلام الإمام الأوزاعي .
الثاني : أن المنهي عنه في الحديث هو التحية بلفظ «السلام عليكم» ، لكن بدأه بتحية غير لفظ السلام : ذهب جماعة من الفقهاء إلى عدم حرمته ، وهو قول معروف في أقوال في المذاهب الأربعة ، وجعلوا النهي خاصا بلفظ السلام دون غيره من التحايا : كمساء الخير وصباح الخير ، وكيف حالك ... ونحوها .
وعلى هذا القول يصبح بدء الكافر بالسلام لا يصلح دليلا لتحريم التهنئة بالأعياد ؛ لأنه حتى من رأى النهي في الحديث عاما وللتحريم ، فبعضهم جعله تحريما للفظ السلام خاصة ، دون غيره . والتهنئة بالعيد ليست سلاما .
الثالث : أن المنهي عنه في السلام هو البدء به ، دون الرد والجواب عليهم إذا سلموا .
وعلى هذا : فقياس التهنئة على السلام يجعل التهنئة جائزة على وجه الرد ، دون الابتداء.
فلو قابلني النصراني فهنأني بعيده الديني ، جاز لي أن أرد التهنئة بالتهنئة ؛ لأنني لم أبدأه بالتهنئة .
ولو هنأني الكافر في عيدي ، جاز أن أهنئه في عيده ، لأنني لم أبدأه بالتهنئة ، بل هو الذي بدأ .
هذه هي ردودي عليه حينها .
فلما تبين لهذا الطالب تهافت استدلاله ، وعجز عن الرد على ما رددت به عليه ، أصر وعاند ، فبدلا من أن يرجع ويعترف بالخطأ ، ولو أن يعترف بخطأ استدلاله .. في أقل تقدير ، ذهب يستدل بالإجماع الذي حكاه ابن القيم في حكم التهنئة ، والذي كنت قد بينت توجيهه .
بل صار يستدل لصحة إجماعه بكلام في غاية الضعف البعيد عن جنس أخطاء طلبة العلم : حيث جعل عدم ورود نص بتحريم التهنئة ، وعدم ورود كلام للسلف بتحريم التهنئة = دليلا على التحريم ! وكأنه ما قرأ يوما أن الأصل في العادات الإباحة ، حتى يأتي ما ينقلها عنها ، وكأنه ما قرأ يوما صعوبة ادعاء الإجماع مع وجود أقوال للسلف دون مخالف لهم ، فكيف مع عدم وجود أقوال لهم أصلا !!
فعلمت أن العناد والكبر قد استوليا عليه ، وأن أخلاقه خانته وستخونه في طلب الحق ؛ إلا أن يزكي نفسه من هذه الأدواء .
وهذا المشهد ما يزال يتكرر ، حتى أيقنت أن العلم زكي طاهر ، لا ينتفع به الذكي واسع الاطلاع بغير زكاء نفس وتواضع وحسن خُلق !!
***
نقل مهم عن أئمة السلف يفيد في الدلالة على حكم تهنئة الكافر بعيده !!
اسألوا الذين يحرمون تهنئة الكفار بعيدهم تهنئة لا تدل على الرضا عن الدين : ما حكم أن يذبح المسلم للكافر ما يريده الكافر ذبيحة لإلهه من دون الله تعالى ؟
ألا يدل ذلك على الإقرار ؟
هل يمكن أن يكون مباحا ؟
هل يجوز أن يُؤكل من تلك الذبيحة وقد ذُبحت لإله غير الله ؟
بل هل يجوز أن يأكل المسلم من ذبيحة الكافر إذا ذُبحت لغير الله ، بعد أن يُسمي الكافر عليها ببسم الله ، لكنه ذبحها لإلهه الباطل من دون الله ؟
يلزمهم (حسب تقريرهم في إطلاقهم تحريم التهنئة) : أن لا يترددوا في منع ذلك وتحريمه ، إن لم يحكموا بكفره ! بل لا يشك اثنان أن الذبح للآلهة أشد إشكالا في الدلالة على الإقرار على الكفر من مجرد التهنئة بالعيد!!
فانظروا الآن ما هو حكم أئمة السلف ، وعلى رأسهم الإمام أحمد :
قال الكوسج في مسائله للإمام أحمد وإسحاق : «قلت: قال: سألت سفيان عن الرجل المسلم يدفع إليه المجوسي الشاة يذبحها لآلهته ، فيذبحها، ويسمّي ، أيأكل منه المسلم؟ قال: لا أرى به بأسا.
قال أحمد: صدق .
قال إسحاق: لا يسع المسلم ذبحها على هذه الحال وأكره أكلها».
مسائل الكوسج (رقم2869) ، وأحكام أهل الملل للخلال (رقم1066) .
ووجاء في كتاب الخلال (أحكام أهل الملل) أيضا : « أخبرني موسى بن سهل، قال: حدثنا محمد بن أحمد الأسدي، قال: حدثنا إبراهيم بن يعقوب، عن إسماعيل بن سعيد، قال: سألت أحمد عما يقرب لآلهتهم يذبحه رجل مسلم؟ قال: لا بأس به» . (رقم 1047) .
ولا ذكر الإمام أحمد حرمة ذلك على المسلم ؛ لأنه بذكر اسم الله قد ذبحه لله ، وإن كان الكافر يريده لآلهته .
في المغني لابن قدامة : «فصل: فأما ما ذبحوه لكنائسهم وأعيادهم، فننظر فيه:
- فإن ذبحه لهم مسلم، فهو مباح. نص عليه. وقال أحمد، وسفيان الثوري، في المجوسي يذبح لإلهه، ويدفع الشاة إلى المسلم يذبحها فيسمي: يجوز الأكل منها.
وقال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عما يقرب لآلهتهم، يذبحه رجل مسلم، قال: لا بأس به.
- وإن ذبحها الكتابي، وسمى الله وحده، حلت أيضا؛ لأن شرط الحل وجد» .
فلما قامت تسمية المسلم بالله مقام إعلان عدم الرضا عما سواه من الآلهة الباطلة ، أجازوا له أن يذبح للكافر ما يذبحه لآلهته الباطلة ، بل أباحوا له أن يأكل من هذه الذبيحة !!
فالحمد لله أننا وجدنا للسلف ما يليق بفقههم حول حكم التهنئة بعيد الكفار ، خلافا لما يدعيه المخالفون بغير نص ولا فقه فيه !!
وقد أرشدني إلى نقل الخلال من رواية الكوسج : الشيخ براء حلواني المحاضر بقسم الكتاب والسنة .
***
زيادة بتاريخ : 15/ 5/ 1442هـ
عندما بينت الفرق بين تهنئة الكافر (بـ)ـعيده الديني وتهنئته (في) عيده الديني ، لكي أبين الفرق بين التهنئة التي تدل عن الرضا عن الدين والتي لا تدل عليه ؛ لأن خشية دلالة التهنئة على الرضا عن دين غير الإسلام هي سبب المنع عند من منع التهنئة = فبدلا من الاعتراف بوجود فرق توجبه اللغة ، ويدل عليه الواقع في تهنئة غير المسلم للمسلمين في أعيادهم الدينية دون أن يتوهم أحدٌ رضا الكافر عن الإسلام ، لا بالدلالة اللغوية لتهنئته، ولا بالدلالة العُرفية لها ، ولا بالدلالة الواقعية (أي لم يظن غير المسلم أنه قد أعلن رضاه عن الإسلام بمجرد تلك التهنئة ، ولا ظن المسلمون فيه ذلك) = بدلا من ذلك وجدت بعضهم يريد أن يعترض على ذلك التقرير المؤيَّد باللغة وبالعُرف وبالواقع بضرب مثالٍ تنفر منه النفوس ، دون الجواب عن تلك الدلائل ! وهذا الفعل هو فعل أصحاب التشغيب بغير علم ؛ لأن بقاء تلك الدلالات دون بيانٍ لبطلان دلالتها، مع الاكتفاء بإيراد إشكال لا يُفسد تلك الدلالات ، لن يكون إلا من نوع منهج أصحاب الشبهات ، الذين يريدون رد الأدلة القائمة بمجرد الاستشكال الذي لا يُبطل دلالتها ، وإنما يُصعِّب فهمها على بعض الناس ، فهو يشبه الاستشكال على المحكمات بالشُّبَه .
أقصد أنني وجدت عددا من المعترضين على ذلك التفريق : يزعم أنه بناء على تقريري سيكون جائزا فيما لو تزوج رجلان ببعضهما (فيما يسمى بالزواج المثلي) أن يهنئهما المسلمُ في تلك المناسبة على سعادتهما بها ، دون أن يكون مهنئا لهما بها !!
يقولون : يلزمك هذا بناء على تقريرك وتفريقك ، فإن كان هذا عندك لا يجوز ، فذلك لا يجوز أيضًا .
وقبل الجواب : أقيد استغرابي من تتابع المعترضين على ذكر هذا المثال ؛ دون غيره ! مع وضوح بطلان الاستشكال به على مسألة التهنئة في العيد .
والمقصود من هذا الاستشكال هو تهييج المشاعر لإنكار القول المخالف لهم ، لكي يعجز كثير من الناس عن تحكيم العقل والعلم في المسألة ، بإيهامهم أن مخالفهم يقرر أمرا قبيحا كهذا المثال المستفز لهم .
وإلا كان يمكنهم أن يضربوا مثلا بأبٍ كافر ، ربح ربحا كبيرا ونجح نجاحا باهرا في تجارته الربوية الجائزة في دينه ونظامه ، هل يحرم على ابنه الذي أسلم أن يهنئه بسعادته تلك ؟
مثل هذا المثل لو ضُرب لكان أقرب للتعقل في تناول المسألة ، من المثال المستفز السابق .
ولكن الحقيقة : أن ذلك المثال المستفز لا يصح الاعتراض به على تقريري عن حكم تهنئة غير المسلم في عيده الديني ؛ لأسباب :
أولا : مما لا يعلمه عامة المسلمين اليوم بسبب غياب أحكام الفقه الإسلامي عنهم المتعلقة بأحكام أهل الذمة : أن جماهير الفقهاء على إقرار المجوس الخاضعين للحكم الإسلامي بدفع الجزية على أنكحتهم الباطلة في الإسلام ، ومنها زواج المحارم ، فعند المجوس يجوز أن يتزوج الرجل بأمه وبأخته ، كما في كتب الفقه الإسلامي ، وعند جمهور الفقهاء أنهم يُقرون على تلك الأنكحة ، ولا تُفسخ ، كما يقرون هم وغيرهم على بقية أحكام دينهم : بداية بالشرك بالله تعالى وبمعابد دينهم الكفري، وانتهاء بجواز شربهم الخمر وأكلهم لحم الخنزير ، ونحو ذلك من أحكام أديانهم المخالفة لدين الإسلام ، بناء على عقد الذمة الذي يقرهم على دينهم بناء لخضوعهم للحكم الإسلامي بدفع الجزية .
وهنا أسأل : لو أن رجلا مجوسيا أسلم ، وهو ابن لأبوين مجوسيين هما أخ وأخته ، أو ابن وأمه ، فلما أسلم أحد أبنائهم ، هل سيكون قبيحا بابنهما أن يهنئ أمه في عافيتها من ولادة أحد إخوته من أبيه ، أم سيكون من عدم المصاحبة بالمعروف أن لا يقول لها عند ولادتها بأخيه من ذلك الزواج الصحيح في دينهم : الحمد لله على سلامتك وأسأل الله لك ولأبي ولأخي الجديد دوام الصحة والعافية . لقد قال الله تعالى ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾، فمع دعواتهما له إلى الشرك بالله تعالى : أمره الله تعالى أن لا يطيعهما في نفسه ، ولكن أمره بصحبتهما ، بما تعنيه الصحبة من واجب القيام بحق هذه المصاحبة ، ولم يكتف الأمر الإلهي بالصحبة ، بل أكد وجوب أن تكون صحبةً بالمعروف : أي بالإحسان إليهما .
فإذا استحضرنا هذا المثال يتبين الفرق بين معاملة الناس المخالفين لنا في الدين والقيم والثقافة بناء على ديننا ومعاملتهم بناء على دينهم وقيمهم وثقافتهم ، دون أن يكون لذلك علاقة بالإخلال بديني وقيمي وثقافتي .
ثانيا : ومما قرره فقه أحكام أهل الذمة التفريق بين حكم يقره دين الذميين ، وعليه تم عقد الذمة بينهم وبين المسلمين ، وحكم آخر لا يقره دينهم ولا ديننا : كالقتل أو السرقة أو الزنا ، فما لا يقره ديننا ودينهم لا يقرون عليه . والإسلام أقرهم على دينهم الكفري وأعيادهم الشركية ، ولكنه لا يقرهم على مخالفة دينهم وديننا كالشذوذ الجنسي .
وأحكام أهل الذمة وإن لم تكن هي مجال التطبيق اليوم ، لكن يمكن أن نستخرج منها فروقا مؤثرة في تقويم المواقف واستنباط الأحكام .
ثالثا : إن افترضنا أن صورة من صور التهنئة في أمر من الباطل والمستقبحات (كالصورة المضروب بها المثل) لا يُتصوَّر فيها انفكاك الفرق بين التهنئة بالباطل نفسه والتهنئة فيه بالشعور الإنساني المرتبط به ، فلا يلزم من ذلك عدم إمكان الانفكاك بين كل صور التهنئة بالباطل والتهنئة فيه بتلك المشاعر .
وهذا ليس افتراضًا عقليا فقط ، بل الواقع يقطع به : أن المسيحي عندما يهنئنا في عيدنا الديني لا تتضمن تهنئته رضاه بديني ، لا نفهم نحن ذلك ، ولا يتوهم هو أننا فهمنا ذلك من تهنئته . فلماذا يلزم من تهنئتنا نحن له في عيده الديني رضانا عن دينه ؟!
هذا سؤال لا أجد للمخالفين جوابا عليه ، منذ بدأت تشغيباتهم على تقريري منذ سنوات.
ومما قد يصحح الفرق بين التهنئة في أمرين : كزواج الشواذ والعيد الديني : أن الأول مناسبة خاصة باثنين ، وأما الثاني فهو مناسبة عامة ، فقد يُستبعد التفريق بين تهنئة بالباطل وتهنئة بالسعادة في الأمر الخاص دون الأمر العام .
والمهم : أن هناك فرقا ظاهرا بين دلالة التهنئة بالعيد الديني والتهنئة في العيد بالسعادة والفرح ، وهو الفرق الذي نجده ضرورة من أنفسنا في تهنئة غير المسلمين لنا في أعيادنا الدينية، رغم أننا نقطع أنهم ما غيّروا أديانهم ولا قصدوا إيهامنا الرضا عن ديننا بتلك التهنئة .
تنبيه : بعضهم نسب إليّ كذبا جواز مشاركة المسلمين لغير المسلمين في الاحتفال في أعيادهم الدينية ، مع أنني لم أتكلم عن ذلك ، وإنما تكلمت عن تهنيئهم في العيد الديني فقط . فأحببت التنبيه على تلك الفرية !
تاريخ النشر : 1436/03/10 هـ
طباعة المقالة