هل يصح إنكار قول لخروجه عن معتمد المذاهب الأربعة
هل يصح إنكار قول لخروجه عن معتمد المذاهب الأربعة
(وفق اصطلاح المتأخرين في معتمد المذهب)
كثيرا ما يتكرر هذا الطرح ، وقد تكرر سؤالي عنه مؤخرا بعد كلامي عن حكم المعازف ، وبعد تقريري أن الاختلاف فيها معتبر .
ففي الجواب عن ذلك : عن قول من ادعى عدم اعتبار أي قول خرج عن معتمد المذاهب عند المتأخرين ، قلت :
هذا غير صحيح ، وهو محاولةٌ لإلغاء خلاف معتبر باجتهاد غير معتبر ؛ لأنه لا يعتمد على قطعي يمنع الاختلاف .
وبيان ذلك يتم من خلال ما يلي :
أولا : الذين يقررون ذلك هم ممن ارتضوا منهج تقليد المذاهب المعتبرة ، فعليهم أن يثبتوا أن معتمد مذاهبهم هو عدم اعتبار كل من خرج عن معتمدها ؟ باعتماد المذاهب الأربعة كلها ، وأن هذا هو ما دل عليه كلام إمام المذهب نصا أو تخريجا . وإلا فلا يحق لهم الاجتهاد ، وهم لا يرتضون لأنفسهم الاجتهاد .
ثانيا : نسأل أصحاب هذا القول : هل معتمد المذاهب الأربعة إجماع قطعي أو ظني ، فإن قالوا : نعم ، كذبتهم دعواهم ، فالأئمة الأربعة ليسوا هم جميع مجتهدي الأمة ، ولا زعم عالم معتبر أن اتفاقهم إجماع ، ومن زعمه فقد أبطل وخالف العقل والحس والشرع . وإن قال : ليس إجماعا ، وهو ما يلزمه ، فقد قضى على دعواه ؛ لأن مصادر التشريع ليس فيها قول الأئمة الأربعة بالإجماع القطعي ، وما خرج عن مصادر التشريع لا يُستنبط منه حكم شرعي بالجواز وعدمه !
ثالثا : معتمد المذهب فيه خلاف طويل بين أتباع المذاهب ، فإلى أن يَحلُّوا إشكال خلافهم في معتمد المذهب ، ويثبتوه بدليل يَلزم مخالفَهم اتباعَه لزوما لا يُعذر بمخالفته ، بعد ذلك يمكن أن نناقشهم .
رابعا : اتفاق المذاهب الأربعة ليس إجماعا بالاتفاق ، وبالاتفاق ما لا يكون إجماعا ولا مخالفا لقطعي الكتاب والسنة وقياس الأولى لا يكون غير معتبر .
اتفاق المذاهب الأربعة يمنع من إلغاء قولهم وعدم اعتباره ، أما أن يُلغي اتفاقُهم خلافَ غيرهم : فهذا ما لم يقل به أئمة المذاهب أنفسهم ، فكان الفقهاء في زمن الأئمة يوافقونهم ويخالفونهم ، بل خالفهم تلامذتهم المباشرون وغيرهم . وما كان خلافا معتبرا في زمن المجتهدين هل يصح أن يصبح غير معتبر في زمن المقلدين ؟!
خامسا : العالم المتمذهِب يحق له الجدل فيما يُنسب لمذهبه ، أما أن يجادل من ليس متمذهبا بمذهبه فلا يحق له جداله ، فكيف بإلغاء اجتهاده ؛ لأن المقلد ينحصر اجتهاده في معرفة قول من يقلده ، ولا يجادل غيره .
أما اعتبار الاختلاف من عدم اعتباره فليس شأن المقلدين . إلا إن زعموا الاجتهاد ، فإن زعموه (أي زعموا الاجتهاد) حَرُمَ عليهم التقليد عند أكثر العلماء ، إلا فيما لا يظهر لهم فيه مأخذ الاجتهاد ودليله .
سادسا : لا يخلو مذهب من المذاهب الأربعة من وجود علماء فيه قد خالفوا معتمد مذهبهم (كمن رجحوا عدم حرمة المعازف) ، وبعض هؤلاء أعلم بالمذهب وبمعتمده من المتأخرين والمعاصرين .
سابعا : المتمذهِب يمكن أن نتساهل معه ونقول : إنه يحق له القول بأن هذا القول ليس معتبرا في معتمد المذاهب عندنا ، أي : ليس معتمدا في واحد منها (حسب تقليده في اختيار المعتمد) . لكن هذا القول ليس هو عدم الاعتبار الذي يمنع الاختلاف في الاجتهاد ؛ لأنه عدمُ اعتبارٍ يخص المقلدَ الموافقَ له في منهج معرفة الحكم (أي الموافق له في تقليده) . أما عدم اعتبار القول مطلقا فإنه لن يكون بسبب خلاف من لا حجة شرعية في قوله من العلماء المتقدمين ، فضلا عن المتأخرين (الذين صاروا غالبا هم معتمد المذهب) . ولذلك خالف عدد كبير من أتباع المذاهب في كثير من المسائل منصوص أئمتهم فضلا عن مخالفتهم غيرهم ، بناء على النظر في الدليل مباشرة (ممن تمكنوا من آلة الاجتهاد) ، أو بناء على خلافهم في تحرير مذهب إمامهم مع ما زُعم أنه معتمد مذاهبهم .
وعامة خلاف هؤلاء العلماء من المتأخرين خاصة لا يخرج عن أقول الأئمة المعتبرين الآخرين كالصحابة والتابعين وأئمة أتباع التابعين كالليث بن سعد والأوزاعي والثوري ونحوهم ممن جاء بعدهم ، مما يحميهم ويحمي مقالاتهم من الشذوذ بقول ما سُبقوا إليه .
أخيرا : آخر من يمكن أن ينكر قولا بحجة مخالفته للأئمة الأربعة هو السلفي غير المتمذهب ، فتفقههم يقوم على عدم امتناع خلاف ما حُكي عليه الإجماع ، فضلا عن خلاف الأئمة الأربعة ، كحكم الطلاق ثلاثا في مجلس واحد الذي حكى فيه الإجماع عشرات العلماء ، وكحكم صلاة الجماعة في المسجد الذي خالفوا فيه المذاهب الأربعة ، وكحكم أن يرث المسلم قريبه الكافر الذي رجح ابن تيمية فيه أنه يرثه ، رغم خلافه للأئمة الأربعة ، ولظاهر النص الصحيح ، بل حُكي فيه الإجماع أيضا خلافا لقوله.
تاريخ النشر : 1439/11/26 هـ
طباعة المقالة