مناقشة مقال للشيخ صالح الفوزان في حكم تنظيم تزويج القاصرات
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه:
أما بعد: فجوابا على الخطاب الذي كتبه فضيلة الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء، حول تقنين تزويج البنت الصغيرة، والذي ذهب فيه إلى عدم جواز ذلك، واستدل لذلك بقوله تعالى ﴿والئي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر والئي لم يحضن﴾، وبتزوج عائشة (رضي الله عنها) بالنبي rوهي بنت ست ودخوله rبها وهي بنت تسع، وشدّدَ فيه على المخالف بنقل الإجماع على جواز تزويج الصغيرة، وجاء في دَرْجِ كلامه ما يدل على أن القول بمنع تزويج الصغيرة إنما هو من قول الصحفيين والجهلة بالشرع المطهر.
أقول (وبالله التوفيق):
أولا: ترجيحُ الشيخ (وفقه الله تعالى) شيءٌ، والإنكار على من يخالفه شيءٌ آخر. فيحق للشيخ أن يميل إلى قولٍ اجتهادًا أو تقليدًا، لكن لا يحق له الإنكار على من خالفه في مسائل الاجتهاد التي وقع فيها خلاف معتبر، ولا يصح فيها الإجماع، مثل مسألتنا هذه (كما يأتي).
ثانيا: الإجماع الذي تبنّاه الشيخ منقوضٌ بخلاف قديم، فلا يصح، فقد منع من تزويج الصغيرة عددٌ من أهل العلم، منهم الإمام التابعي الفقيه الجليل عبدالله بن شُبرمة فقيه العراق وقاضي الكوفة (ت144هـ)، وفقيه البصرة التابعي الإمام عثمان بن مسلم البَـتِّي (ت143هـ)، وغيرهم([1]).
فليس بإجماعٍ ما وقع فيه مثلُ هذا الاختلافِ القديم، وتَشْذِيذُ أقوالِ أهل العلم المخالفةِ لقول الأكثرين لا يكون بغير ضابط؛ ولا يكون بمجرد دعوى الإجماع المنقوضة بخلاف من خالف؛ لأن خلافهم يدل على عدم وقوع الإجماع؛ إلا إذا كان الإجماع قد سبقهم، ولا دليل على أن الإجماعَ في هذه المسألة قد وقع بين الصحابة في هذه المسألة([2])، ليسبق عصر التابعين: عصر ابن شبرمة والبتي.
وهذا النوع من الإجماع ظنيٌّ؛ لأنه ليس من نقل العامة عن العامة (كالإجماع على فرائض الصلاة)، ولا احتفّت به قرائن تجعله يقينيا، بل على العكس، جاء الخلاف الذي يدل على عدم وقوعه أصلا. والإجماع الظني حجة، لكن لا يُضلّلُ من شكّكَ في وقوعه، ونَـفَى انعقادَه، بدليل مقبولٍ مثلُه، كورود الخلاف.
فكيف يُقبل تشذيذُ أقوال إمامين من جلّة فقهاء التابعين ؟! وليس في المسألة إجماع يقيني ولا ظني، ولا أدلة الكتاب والسنة قطعية في الدلالة على خلاف قولهما ؟!
ولا ينفع في هذا الباب الاستكثارُ بحصر أسماء من نَقَلَ هذا الإجماعَ من العلماء([3])، ولا التَّقَوِّي بذِكْرِ عددهم، كما لم ينفع في مسألة الطلاق ثلاثا في مجلس واحد وإيقاعه طلقةً واحدة، والتي نقل الإجماعَ فيها على إيقاعه ثلاثا جمعٌ كبير من العلماء([4])، ومع ذلك خالفهم شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله)، ومن تابعه كالشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله) وغيرهما. فَـنُـقُولُ الإجماعِ المنقوضةُ بالخلاف ليست أدلةً ظنيةً، فضلا عن أن تكون دليلا يقينيا يُجهَّلُ مخالفُه أو يُضَلَّلُ. بل الاستدلالُ بمواطن الاختلاف، وكثرة ادعاء الإجماع في غير محلّه = ليس منهجا علميا. وفي مثل هذا الموقف قال الإمام أحمد بن حنبل فيما رواه عنه ابنه عبد الله قال: «سمعت أبي يقول فيما يُدّعي فيه الإجماعُ: هذا الكذب، من ادّعى الإجماعَ فهو كاذب؛ لعل الناسَ اختلفوا ولم ينتهِ إليه، فيقول: لا نعلم الناسَ اختلفوا. هذه دعوى بشر المريسي والأصمّ، ولكن نقول: لا نعلم الناسَ اختلفوا، و: لم يبلغني ذلك»([5]).
ثالثًا:لو افترضنا أن الإجماع صحيح على جواز تزويج الصغيرة، ولو افترضنا أن الأدلة قطعية الدلالة على ذلك أيضًا، فهذا لا يلزم منه منع التزويج في بعض الأحوال، إذا تحققت بسببه مفاسد غالبةٌ لمصالحه. خاصةً مع تبدّل الأحوال والأعراف عن زمن السلف والأئمة المتبوعين، ومع كثرة تحقق المفاسد جرّاءَ ذلك.
وفضيلة الشيخ الفوزان نفسُه (وفقه الله تعالى) كم كان قد حرّم أشياء أجمعت الأمة على إباحتها، أخذًا منه بسدّ الذريعة، لما ترجحت عنده مفسدتُه على مصلحته، بسبب ظروف تحيط بذلك المباح وبالمجتمع، تختلف عن ظروف زمن التشريع، فأباح لنفسه(وفقه الله تعالى) تحريم المباح إجماعا، لأنه أصبح (حسب اجتهاده) ذريعةً للحرام. فكل ما حُرّم سدًّا للذريعة فقط لا بد أن يكون مباحا عند المحرِّم، كقيادة المرأة للسيارة التي يحرمها الشيخ سدا للذريعة عنده؛ لأنه يرى مفاسدها تفوق مصالحها.
فليحمل وجهةَ نظر من يريدون تقنين تزويج الصغيرة على هذا المحمل.
ولا يصح في مثل هذه الحالة التشنيع بالإجماع (لو صحّ)، ولا بالأدلة (ولو كانت ترجح قوله ولو كانت أدلة قطعية)؛ لأن من يخالفه قد يوافقه على صحة الإجماع، وعلى قطعية الدلالة، لكنه يخالفه في إلزامِ الواقعِ ومفاسدِه بمنعٍ، أو بتقنينٍ لا يمنع مطلقًا، لكنه ينظّم ذلك.
رابعا: وصف الشيخ من يخالفه بأوصاف شديدة، وأنهم من الصحفيين الذين يتكلمون بغير علم، ولم يذكر أن منهم أحدا من أهل العلم، بل جعل هذا القول من قبيل تشريع ما لم يأذن به الله، ومن قبيل الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض !!
فماذا سيقول الشيخ إن علم أن جمعا من أهل العلم المعاصرين يخالفونه، منهم: الشيخ ابن عثيمين (عليه رحمة الله) ؟! وستأتي أقوال بعضهم، وسنذكر من رجح خلاف ترجيحه منهم.
كان يكفي الشيخ الفوزان (وفقه الله تعالى) أن يرجح، فهو حقه المشروع؛ لكن أن يصادر اجتهاد علماء آخرين، ويتهم من خالفه بتلك الأوصاف، فهذا هو المنهج المخالف للإجماع حقًّا، ولقطعيات الكتاب والسنة صدقا.
والمطلوب من فضيلته أن يعرض اجتهاده دون مبالغة في الإلزام به، ما دام اجتهادًا، وما دام لغيره اجتهادُه المعتبر.
أما ذكر مقالات بعض من خالفهم الشيخ:
1- فمنهم: العلماء الذين وضعوا قانون الدولة العثمانية، وفق دراسة فقهية. فقد سبقوا إلى وضع مشروع قانون سموه ( قرار حقوق العائلة في النكاح المدني والطلاق ) وصدر في 8 المحرم سنة 1336هـ، هذا نص خلاصة تلك الدراسة الذي وُضع في قانونها (مجلة المنار: المجلد 25): «تزويج الصغير والصغيرة: إن الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم أجازوا للولي تزويج الصغير والصغيرة، ولذلك كانت المعاملة حتى الآن جارية على هذا الوجه، لكن تَـبَـدُّلَ الأحوال في زماننا، قد اقتضى العمل بأصول أخرى في هذا الباب... (إلى أن قالوا: ) ولا يُعرف مقدار الدعاوى المتولدة من مثل هذه الأنكحة؛ إلا بالنظر في سجلات المحاكم الشرعية، والرجوع إلى أبواب الكتب الفقهية، وفصولها المتعلقة بتزويج الأب والجد صغيرهما، وتزويج غير الأب والجد من الأولياء الصغير، وما أعطي للصغير والصغيرة من حق الخيار عند البلوغ إذا كان المزوج غير الأب والجد.
على أن ابن شبرمة و أبا بكر الأصم رحمهما الله يقولان بأن الولاية على الصغار مبنية على منافعهم، وفي الأحوال التي لا يُحتاج فيها إليها: كقبول التبرعات مثلاً لا يكون لأحد فيها حق الولاية عليهم، وتزويجهم ليس فيه من فائدة لا طبعًا ولا شرعًا؛ نظرًا لعدم احتياجهم إليه، لذلك لا يجوز تزويجهم قبل البلوغ من قبل أحد ألبتة. وقالا: إن النكاح ليس بشيء مؤقت، بل هو عقد يدوم ما دامت الحياة، فإذا جعل النكاح الذي يعقده أولياء الصغار نافذًا عليهم، فإن آثاره وأحكامه تستمر بعد بلوغهم أيضًا، في حين أنه لا يجوز لأحد أن يقوم بعمل يسلب منهم حرية التصرف بعد البلوغ. وحيث إن التجارب المؤلمة المستمرة منذ عصور قد أيدت قول الإمامين المشار إليهما، فقد قبل رأيهما في هذه المسألة، ووضعت المادة السابعة على هذا الوجه (وهذا نصها):
المادة 7 - لا يجوز لأحد أن يزوج الصغير الذي لم يتم الثانية عشرة من عمره، ولا الصغيرة التي لم تتم التاسعة من عمرها».
2- ولهذا القانون مذكرة إلحاقية، وقع عليها عدد من علماء الشريعة، منهم مفتي مصر في ذلك الوقت فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن محمود قراعة (ت1358هـ)، وشيخ الأزهر فضيلة الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي (ت1346هـ). ومما جاء في هذه المذكرة الموقعة من عدد من علماء الشرع، منهم من ذُكر: « من هذا يُعلم أن لبعض علماء الشريعة الإسلامية قولاً، بأنه لا ولايةَ إجبارٍ على الصغير والصغيرة لأحد في عقد الزواج، وأن سن البلوغ أقصاه ثماني عشرة سنة.
ومن حيث إن عقد الزواج له من الأهمية في الحالة الاجتماعية منزلة عظمى، من جهة سعادة المعيشة المنزلية، أو شقائها، والعناية بالنسل وإهماله، وقد تطورت الحالة المتبعة، بحيث أصبحت تتطلب المعيشة المنزلية استعدادًا كبيرًا؛ لحسن القيام بها، ولا يستأهل الزوج والزوجة لذلك غالبًا قبل سن الرشد المالي = فمن المصلحة الواضحة منع الزواج قبله؛ لأنه إذا كان لا يباح لهما قبل بلوغ سن الرشد المالي، أن يتصرفا فيما قيمته دراهم معدودة، مع أن الضرر المنظور محدود وغير ملازم للحياة، فلأن لا يباح لهما التصرف في أنفسهما بعقد الزواج وآثاره إن خيرًا وإن شرًّا، قد لا تزول طول حياتهما = أولى وأوجه. كذلك لما كان عقد الزواج يرجع الأمر فيه أولاً إلى الزوجين، وهما اللذان يتأثران بنتائجه مباشرةً، فإما أن يكونا به سعيدين، وإما أن يكونا به شقيين، فإن الواجب أن يكون الخيار إليهما فيه، وتراعى إرادتهما قبل كل إرادة، وليس لإرادة غيرهما؛ إلا حقّ النصح والمشورة، بحيث لا تعوقانهما عما يريان المصلحة لهما فيه، وكان من اللازم أن يُناط سنُّ الزواج بسن الرشد المالي، بالنسبة لكل من الزوجين، ولكن لما كانت بنية الأنثى تستحكم وتقوى، قبل استحكام بنية الصبي، وما يلزم لتأهل البنت لمعيشة الزوجية، يُتدارك في زمن أقل مما يلزم الصبي، كان من المناسب أن يناط سن زواج الأنثى ببلوغ ست عشرة سنة، والصبي ببلوغ ثماني عشرة سنة... (إلى أن قالوا: ) ومن حيث إن المصلحة واضحة فيما ذُكر؛ لما بيناه، فلا مانع شرعًا من أن يضاف على المادة 101 من القانون نمرة 31 سنة 1910 فقرة رابعة نصها:( ولا تسمع دعوى الزوجية إذا كانت سن الزوجة تقل عن ست عشرة سنة، وسن الزوج تقل عن ثماني عشرة سنةً وقت العقد إلا بأمر منا )، ويضاف على المادة 366 من القانون سالف الذكر فقرة ثانية نصها: ( ولا يجوز مباشرة عقد الزواج ولا المصادقة، على زواج مُسنَدٍ إلى ما قبل العمل بهذا القانون، ما لم تكن سن الزوجة ست عشرة سنةً، وسن الزوج ثماني عشرة سنةً وقت العقدِ ) ».
3- وهذا ما خلصت إليه المحاكم الشرعية في الإمارات، في تقنينها الشرعي لمسائل النكاح. فقد جاء في الفقرة الأولى من المادة (30) من القانون الإماراتي ما يلي: «تكتمل أهلية الزواج بالعقل والبلوغ، وسن البلوغ تمام الثامنة عشرة من العمر، لمن يبلغ شرعًا قبل ذلك». وجاء في الفقرة الثانية من المادة نفسها: «لا يتزوج من بلغ، ولم يكمل الثامنة عشرة من عمره؛ إلا بإذن القاضي، وبعد التحقق من المصلحة»([6]). وبهذا يكون هذا القانون قد أخذ بمذهب ابن شبرمة الذي لا يجيز زواج الصغيرة والصغير.
4- يقول الشيخ ابن عثيمين (عليه رحمة الله) في الشرح الممتع (12/57-58): «من دون تسع السنين ليس لها إذن معتبر؛ لأنها ما تعرف عن النكاح شيئًا، وقد تأذن وهي تدري، أو لا تأذن؛ لأنها لا تدري، فليس لها إذن معتبر، ولكن هل يجوز لأبيها أن يزوجها في هذه الحال.
نقول: الأصل عدم الجواز؛ لقول النبي r: «لا تنكح البكر حتى تستأذن»، وهذه بكر، فلا نزوجها حتى تبلغ السن الذي تكون فيه أهلاً للاستئذان، ثم تُستأذن.
لكن ذكر بعض العلماء الإجماع على أن له أن يزوجها، مستدلين بحديث عائشة t، وقد ذكرنا الفرق، وقال ابن شبرمة من الفقهاء المعروفين: لا يجوز أن يزوج الصغيرة التي لم تبلغ أبدًا؛ لأننا إن قلنا بشرط الرضا فرضاها غير معتبر، ولا نقول بالإجبار في البالغة، فهذه من باب أولى. وهذا القول هو الصواب: أن الأب لا يزوج بنته حتى تبلغ، وإذا بلغت فلا يزوجها حتى ترضى ».
وقال ابن عثيمين في شرحه على البخاري، معلقا على الاستدلال بالآية ﴿والئي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر والئي لم يحضن﴾: « الشاهد في هذا الباب قوله تعالى ﴿والئي لم يحضن﴾، يعني: اللائي لم يحضن عدتهن ثلاثة أشهر، ولا عدة إلا بعد نكاح، والتي لم تحض على حسب استدلال البخاري (رحمه الله تعالى) هي التي لم تبلغ، أي: صغيرة. ولكن قد يقال: إن البلوغ ليس علامته الحيض فقط، فقد تبلغ بخمس عشرة سنة وتُزوَّج، ولا يأتيها الحيض، فهذه عدتها ثلاثة أشهر، فلهذا استدلال البخاري (رحمه الله تعالى) فيه نظر؛ لأنه ما يظهر لنا أنها تختص بمن لا تحيض، فإنه يمكن أن تبلغ بتمام خمس عشرة، بالإنبات، أو بالإنزال كما هو معروف([7]).
الحاصل أن الاستدلال بالآية ليس بظاهر، أما الاستدلال بحديث عائشة (رضي الله عنها) أن أبا بكر زوجها ولها ست سنين، ودخل عليها النبي rولها تسع سنين، فهذا صحيح أن فيه أن تزويج الرجل أولاده الصغار، ولكن قد يقال: متى يكون الزوج كالرسول r،ومتى تكون البنت كعائشة.
أما أن يأتي إنسان طمّاع لا همّ له إلا المال، فيأتيه رجل ما فيه خير، ويقول زوجني بنتك، وهي عنده ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة، ما بلغت بعد، ويعطيه مائة ألف، فيزوجه إياها، ويقول: الدليل على ذلك أن أبا بكرtزوّج عائشة النبيَّ.
نقول: هذا الاستدلال بعيد ما فيه شك، وضعيف، لأنه لو ما أعطاك المائة ألف ولا أعطاك كذا وكذا، ما زوجته، ولا استدللت بحديث عائشة وتزويج أبي بكر للنبي r إياها.
فالمسألة عندي أن منعها أحسن، وإن كان بعض العلماء حكى الإجماعَ على جواز تزويج الرجل ابنته التي هي دون البلوغ، ولا يعتبر لها إذن، لأنها ما تعرف مصالحها.
وبعضهم قال: هذا خاص بمن دون التسع.
فالذي يظهر لي أنه من الناحية الانضباطية في الوقت الحاضر، أن يُمنع الأبُ من تزويج ابنته مطلقا،حتى تبلغ وتُستأذن، وكم من امرأة زوّجها أبوها بغير رضاها، فلما عرفت وأتعبها زوجها قالت لأهلها: إما أن تفكوني من هذا الرجل، وإلا أحرقت نفسي، وهذا كثير ما يقع، لأنهم لا يراعون مصلحة البنت، وإنما يراعون مصلحة أنفسهم فقط، فمنع هذا عندي في الوقت الحاضر متعين، ولكل وقت حكمه.
لا مانع من أن نمنع الناس من تزويج النساء اللاتي دون البلوغ مطلقا، فها هو عمرtمنع من رجوع الرجل إلى امرأته إذا طلّقها ثلاثا في مجلس واحد، مع الرجوع لمن طلّق ثلاثا في مجلس واحد كان جائزا في عهد الرسول r،وأبي بكر وسنتين من خلافته، والراجح أنها واحدة. ومنع من بيع أمهات الأولاد، فالمرأة السُّرِّيَّة عند سيدها إذا جامعها وأتت منه بولد صارت أم ولد، في عهد الرسول rوأبي بكر، كانت تباع أم الولد، لكن لما رأى عمر أن الناس صاروا لا يخافون الله، ويفرِّقون بين المرأة وولدها، منعtمن بيع أمهات الأولاد. وكذلك أيضا: أسقط الحد عن السارق في عام المجاعة العامة.
وأما قول ابن شبرمة: أن زواج النبي rمن عائشة هو من خصائصه r، فله وجه، ولكن الأصل عدم الخصوصية، ولكن يُرَشِّحُ هذا القول أن الرسول rخُصَّ بأشياء كثيرة في باب النكاح.
وقال البخاري -رحمه الله تعالى-:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَزَوَّجَهَا وَهِيَ بِنْتُ سِتِّ سِنِينَ، وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعٍ وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا).
(فقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: ): تقدم لنا أن الرجل يجوز أن يزوّج ابنته الصغيرة إذا كانت بكرا، ومعلوم أن الصغيرة لا إذن لها، لأنها لم تبلغ، وهذا قول جمهور أهل العلم، واستدلوا بالحديث الذي ذكره المؤلف -رحمه الله -، وبعضهم حكى الإجماع على أن للأب أن يزوج ابنته الصغيرة بدون رضاها، لأنه ليس لها إذن معتبر، وهو أعلم بمصالحها، ولكن نقل الإجماع ليس بصحيح، فإنه قد حكى ابن حزم عن ابن شبرمة أنه لا يصح أن يزوج ابنته الصغيرة حتى تبلغ، وتأذن؛
وهذا عندي هو الأرجح، والاستدلال بقصة عائشة فيه نظر، ووجه النظر أن عائشة زُوِّجت بأفضل الخلق -صلى الله عليه وسلم- وأن عائشة ليست كغيرها من النساء، إذ أنها بالتأكيد سوف ترضى وليس عندها معارضة، ولهذا لمّا خُيرت -رضي الله عنها- حين قال لها النبي - صلى لله عليه وسلم -: (لا عليك أن تستأمري أبويك)؛ فقالت: إني أريد الله ورسوله، ولم ترد الدنيا ولا زينتها.
ثم إن القول بذلك في وقتنا الحاضر يؤدي إلى مفسدة كما أسلفنا سابقا، لأن بعض الناس يبيع بناته بيعا، فيقول للزوج: تعطيني كذا، وتعطي أمها كذا! وتعطي أخاها كذا!، وتعطي عمها كذا !... إلى آخره.
وهي إذا كبرت فإذا هي قد زُوجت فماذا تصنع؟!!
وهذا القول الذي اختاره ابن شبرمة ولا سيما في وقتنا هذا، هو القول الراجح عندي، وأنه يُنتظر حتى تبلغ ثم تُستأذن.
فعائشة -رضي الله عنها - تزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم - وهي بنت ست سنين، يعني قبل أن تبلغ سنّ التمييز، وتوفي عنها بعد تسع سنين، حيث توفي الرسول -صلى الله عليه وسلم - في السنة الحادية عشرة من الهجرة فهذه تسع سنوات». انتهى كلام الشيخ ابن عثيمين في شرح البخاري.
ختامًا: ليس المقصود من هذا الجواب مناقشة المسألة، ولا ترجيح قول على قول. وإنما المقصود:
- بيان أن المسألة من مسائل الاجتهاد المعتبر التي لا يجوز فيها الإنكار، ولا يصح فيها الإلزام بفتوى دون أخرى؛ إلا فيما تقتضيه المصلحة العامة للمسلمين.
- أن فيمن أباح تنظيم زواج الصغيرة، ولو بمنعه، عددًا من أهل العلم، ولم ينفرد بذلك الجهلة ولا قليلو الدين.
كتبته بيانا للحق، ونصحًا لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم.والله الموفق إلى سواء السبيل.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
([1]) انظر: مختصر اختلاف العلماء للطحاوي (2/257)، والمحلى لابن حزم (9/459)، وبدائع الصنائع للكاساني (3/363).
([2]) وإن ادعى الكاساني إجماعَ الصحابة في بدائع الصنائع (3/363-364)، محتجًّا بوقائع زَوّجَ فيها بعضُ الصحابة بناتِهم وهنّ صغيرات؛ إذ قد يكون عدم إنكار الساكتين على من فَعَلَ ذلك، لكون المسألة اجتهاديةً يسوغ فيها الاختلاف، ولا يجوز فيها الإنكارُ ولا الإلزام. فمجرّد وقوع ذلك من بعضهم، دون وُرود ذكر من خالفهم = لا يكفي لإثبات اتفاقهم. فليس يلزم من تزويج بعض الصحابة للصغيرات، أن يكون الصحابة كلهم يوافقونهم ويصححون تزويجهن.
ولا أقول هذا، ولا أمنع من مثل هذه الدعوى لإجماع الصحابة؛ إلا مع وقوع الخلاف منذ زمن التابعين. خاصةً مع كون مستند القول بجواز تزويج الصغيرات من نصوص الكتاب والسنة أدلةً ظنيةً في دلالتها، وليس فيها دليلٌ يقيني الدلالة. فهذا الخلاف الذي وقع منذ جيل صغار التابعين يشهد بأن المسألة لو كانت إجماعية عند الصحابة، لكان هؤلاء التابعون أَولى من عَرَفَ هذا الإجماعَ، وأَولى من وقف عنده والتزمه. فهم أقرب عهدا بالصحابة، بل قد تتلمذوا على بعضهم، وهم أكثر علما، وأشد احتجاجًا بإجماع الصحابة وتعظيمًا لقبح خلافهم !
وهذا له علاقة بضابط الاحتجاج بهذا النوع من الإجماع، وهو ما أشار إليه الإمام الجويني في البرهان (1/ 695-697 رقم641-643)، وتحدثت عنه بالتفصيل في موطن آخر .
([3]) وممن نفى الخلافَ أو نقل الإجماعَ: الإمام أحمد، ومحمد بن نصر المروزي، وابن المنذر،، وابن عبدالبر، والباجي، وابن العربي، والنووي، وابن حجر، وغيرهم.
([4]) ممن نقل الإجماع أو نفى الخلاف في كون الطلاق ثلاثا في مجلس يقع ثلاثا: داود بن علي الظاهري (ت270ﻫ)، ومحمد بن نصر المروزي (ت294ﻫ)، وابن المنذر (ت318ﻫ)، والطحاوي (ت321ﻫ)، وأبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم بن مَسَرّة التُّجِيبي المالكي (ت352ﻫ)، وأبو محمد عبدالله بن محمد بن علي الباجي (ت378ﻫ)، وأحمد بن نصر الداودي المالكي (ت402ﻫ)، وابن بطال (ت449ﻫ)، وابن عبدالبر (ت463ﻫ)، والمازري (ت536ﻫ)، وابن العربي (ت543ﻫ)، والقاضي عياض (ت544ﻫ)، وابن التين (ت611ﻫ)، وابن حجر الهيتمي المكي (ت974ﻫ)، وغيرهم.
ومع وفرة من نقل الإجماع في هذه المسألة، ومع تشنيعهم على المخالف لهذا الإجماع، ووصفه بأقبح الأوصاف = لم يكن هذا حائلا دون ترجيح خلاف قولهم، لما لم يكن الإجماع قائما، وذهب إلى خلاف هذا الإجماع بعض المشايخ المعاصرين، دون نكير من فضيلة الشيخ صالح الفوزان، ولا من غيره. ولا أدري، بل لعله هو نفسه يقول بخلاف تلك النقول المتكاثرة على الإجماع.
([5]) مسائل الإمام أحمد برواية ابنه عبد الله (رقم 1578)، ووقع في (المسائل) اضطرابٌ في سياق العبارة، وقد أخرجها ابن حزم في المحلى (10/422) والإحكام في أصول الأحكام (4/573) بإسناده الصحيح المتصل إلى عبد الله بن أحمد، وهو في طبعة (المحلى) أبعد عن التحريف، ومنه أثبتُّ اللفظ.
([6]) نقلا عن: ندوة القضاء الشرعي في العصر الحاضر: الواقع والمأمول. الفترة الواقعة بين 12-13-14 ربيع الأول 1427هـ الموافق 11-12-13/4/2006هـ
([7]) يقول الإمام العلامة شيخُ الشافعية علي بن محمد بن علي الطبري الشهير بإِلْـكِيا الـهَرَّاسي (ت504هـ) في أحكام القرآن: «ولما ثبت أن المراد باليتيمة البالغة، ولم يكن في كتاب الله دلالة على جواز تزويج الصغيرة، لا جرم صار ابن شبرمة إلى أن تزويج الآباء للصغار لا يجوز، وهو مذهب الأصم، لأن نكاح الصغيرة يتخير بتفويت من غير تعجيل مصلحة على ما قررناه في تصانيفنا في مسائل الخلاف. وإذا ثبت ذلك فلا يجوز ذلك تلقياً من القياس ولا توقيفاً. وعماد كلامهم أن تزويج الصغيرة يتخير بتفويت في مقابلة نجح موهوم، ولا يتحقق ذلك في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذْ لا يُتوقَّع فواتُ مصلحة الصغيرة من نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يقال في الجواب عن ذلك: إن المرأة ربما أرادت الدنيا بعد البلوغ، وأرادت التفرغ إلى نفسها، ولم ترد زوجاً، فالتوقع قائم.
ويمكن أن يقال: إن نكاح الصغيرة ليس بعيداً عن المصلحة، ولذلك اطردت به العادة واستمرت عليه العامة، فإن المقصود منه الألفة، فإذا ألفيت المرأة صغيرة لم تمارس الرجال ولم تعرف الهوى، ترسخت المودة بينهما».
والمقصود من هذا النقل: بيان اتساع مجال النظر في فهم الأدلة، خلافا لما يوهم قطعيتها !
تاريخ النشر : 1435/07/20 هـ
طباعة المقالة