فرق الموقف بين الذهبي وابن تيمية في الاعتذار لأهل الصلاح

فرق الموقف بين الذهبي وابن تيمية في الاعتذار لأهل الصلاح
ترجم الذهبي في تاريخ الإسلام لإسماعيل ابن عز القضاة علي بن محمد الدمشقي (ت689هـ) : (15/ 628-631).
فذكر الذهبي تزهده وعبادته ، وأنه لقي أحد الصوفية فحثه على قراءة كتب ابن عربي ، فقرأها ، وصار يعظمه تعظيما شديدًا ، فقال الذهبي عنه : «وأقبل على كتب ابن العربي فنسخها وتلذذ بها ، وكان يلازم زيارة قبره ، ويبالغ في تعظيمه .
والظن به أنه لم يقف على حقيقة مذهبه ، بل كان ينتفع بظاهر كلامه ، ويقف عن متشابهه ؛ لأنه لم يُحفظ عنه ما يشينه في دينه من قول ولا فعل ، بل كان عبدا قانتا لله ، صاحب أوراد وتهجد وخوف واتباع للأثر ، وصدق في الطلب ، وتعظيم لحرمات الله . لم يدخل في تخبيطات ابن العربي ولا دعا إليها . وكان عليه نور الإسلام وضوء السنة ، رضي الله عنه».
ثم قال الذهبي : «وكان شيخنا ابن تيمية يعظمه ويبالغ ، حتى وقف له على أبيات أولها :
وحياتكم ما إن أرى لكمُ سِوى ... إذ أنتم عينُ الجوارحِ والقُوى
فتألم له ، وقال : هذا الشعر عين الاتحاد .
قلت: إنما إراد أن ينظم قوله: " فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به. . . "، الحديث، فقال: سياق الحديث يدل على بطلان هذا. وهو قوله:" فبي يسمع وبي يبصر "، وما في الحديث أن الباري تعالى يكون عين الجوارح ، تعالى الله عن ذلك».
فتعقب الذهبي كلام ابن تيمية بقوله : «قلت: لم أجد هذه اللفظة " فبي يسمع وبي يبصر"».
والحديث أورده ابن تيمية في مواضع كثيرة من كتبه بهذا اللفظ ، بل نسبه للبخاري بهذا اللفظ ، وهو ليس في البخاري ، ولا في غيره من كتب السنة مسندًا ، وإنما أورده الحكيم الترمذي في نوادر الأصول بلا إسناد .
ولذلك فقد استدرك الشيخ الألباني على ابن تيمية ، فقال في السلسلة الصحيحة (رقم 1640) : «ونحو ذلك أن شيخ الإسلام ابن تيمية أورد الحديث في عدة أماكن من " مجموع الفتاوي " (5 / 511و10 / 58 و 11 / 75 - 76 و 17 / 133 - 134) من رواية البخاري بزيادة " فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي ". ولم أر هذه الزيادة عند البخاري ولا عند غيره ممن ذكرنا من المخرّجين».
والعجيب أن بعض من خدموا كتب ابن تيمية بالتخريج من المعاصرين كانوا إذا وقفوا على عزو ابن تيمية لهذا الحديث إلى البخاري بهذا اللفظ ، عزوه إلى البخاري دون تنبيه إلى عدم ورود هذا اللفظ لا عند البخاري ولا عند غيره !
ثم ختم الذهبي هذه الترجمة العجيبة بقوله عن صاحبها : «وله أوراد وأعمال زكية ، وخوف وورع يمنعه من جهرمة الاتحادية . وتُشعر تقواه بأنه ما دقق في مذهب الطائفة ، ولا خاض في بحر معانيهم ، ولعل الله حماه للزومه العبادة والإخلاص .
وقد نسخ (جامع الأصول) وانتفع بالحديث، فالله يرحمه.
والظاهر أنه كان يُنزِّل كلام محيي الدين على محامل حسنة ولمحات للعارفين ، فما كل من عَظَّمَ كبيرًا عرف جميع إشاراته. بل تراه يتغالى فيه مجملا ، ويخالفه مفصلا ، من غير أن يشعر بالمخالفة !
وهذا شأن فرق الأمة مع نبيها صلى الله عليه وسلم ، تراهم منقادين له أيما انقياد ، وكل فرقة تخالفه في أشياء جمة ، ولا شعور لها بمخالفته .
وكذا حال خلائق من المقلدين لأئمتهم : يحضون على اتباعهم بكل ممكن ، ويخالفونهم في مسائل كثيرة في الأصول وفي الفروع ، ولا يشعرون ، بل يكابرون ولا ينصفون ، نعوذ بالله من الهوى ، وأن نقول على الله ما لا نعلم . فما أحسن الكفَّ والسكوت ، وما أنفع الورع والخشية.
وكذلك الشيعة تبالغ في حب الإمام عليّ ويخالفونه كثيرًا ويتأولون كلامه ، أو يكذِّبون بما صح عنه .
فلعل الله تعالى أن يعفو عن كثير من الطوائف بحسن قصدهم وتعظيمهم للقرآن والسنة».
هكذا يختم الإمام الذهبي كلامه عن طوائف المسلمين بمثل هذا الاعتذار الجميل !
تاريخ النشر : 1444/07/18 هـ
طباعة المقالة