التضلع من ماء زمزم ودلالته على الإيمان وأثر حديثه في بيان حكم صلاة الجماعة في المسجد
التضلع من ماء زمزم ودلالته على الإيمان
وأثر حديثه في بيان حكم صلاة الجماعة في المسجد
عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، قال: كنت عند ابن عباس جالسا، فجاءه رجل فقال: من أين جئت؟ قال: من زمزم. قال: فشربت منها كما ينبغي؟ قال: وكيف؟ قال: إذا شربت منها فاستقبل الكعبة واذكر اسم الله، وتنفس ثلاثا، وتضلع منها، فإذا فرغت فاحمد الله عز وجل، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن آية ما بيننا وبين المنافقين، أنهم لا يتضلعون من زمزم"
أخرجه ابن ماجه ، وصححه الحاكم والضياء المقدسي ، وقال ابن الملقن : (( إسناده جيد)) ، وحسنه ابن حجر العسقلاني ، وصححه البوصيري .
والراجح عندي أنه حديث صحيح ، كما سيأتي .
وكثير من المعاصرين ضعفه بسبب محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر راويه عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وقد غلطوا في ذلك .
وسأذكر الآن تحرير ترجمة هذا الراوي :
فهو محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر القرشي الجمحي أبو الثورين : زعم بعضهم أن البخاري جمع بينه وبين أبي غِرارة محمد بن عبدالرحمن بن أبي بكر القرشي التيمي الجُدعاني ؛ لأن البخاري ذكر حديثا من أحاديث أبي الثورين في ترجمة أبي غِرارة ، وهو حديث ابن عباس : «آية ما بيننا وبين المنافقين : لا يتضلّعون من زمزم» . كما في التاريخ الكبير ( ١ / ١٥٧) والأوسط (4/718-719 رقم1118) .
والواقع أن البخاري أفرد ترجمة لأبي الثورين في التاريخ الكبير (1/150) ، فقال : «محمد بن عبد الرحمن أبو الثورين الجمحي المكي : سمع ابن عمر ، روى عنه عمرو بن دينار . وقال شعبة عن عمرو بن دينار عن أبي السوار ، وهو وهم» .
فالإمام البخاري لم يجعلهما راويا واحدا ، لكنه عدّ راوي حديث ابن عباس في التضلع من زمزم ، والذي روى عنه عثمان بن الأسود : هو أبا غِرارة التيمي .
فإن كان هذا خطاً من البخاري فهو ليس خطأ في الجمع بين راويين ، وإنما هو تعيين راوي الحديث : هل هو التيمي الجدعاني أبو غِرارة ، أم الجمحي أبو الثورين ؟
وسبب هذا الاختيار من الإمام البخاري : هو أن راوي حديث ابن عباس قد سُمي في بعض طرق حديثه بابن أبي مليكة ، والمعروف بهذه النسبة هو أبو غرارة .
لكن يُشكل على اختيار البخاري : أن أبا غِرارة متأخر عن أن يروي عن ابن عباس ، فهو من أتباع التابعين . وكان يمكن أن يقال : لعله أرسل عنه ؟ لكن يُبعد ذلك ثلاثة أمور :
الأول : أنه قد صرح بحضور مجلس ابن عباس لما حدث بهذا الحديث (كما عند ابن ماجه) ، ووُصف في بعض طرق الحديث بأنه : جليسٌ لابن عباس (كما عند البيهقي) .
الثاني : أن عثمان بن الأسود بن موسى المكي مولى بني جُمح الذي روى عنه حديث ابن عباس في زمزم إن لم يكن أكبر من أبي غرارة ، فهو قرينه ، مما يُبعد احتمال أن يكون أبو غِرارة هو راويَ حديثِ ابن عباس .
الثالث : أن عثمان بن الأسود الجمحي (مولاهم) معروف بالرواية عن أبي الثورين ، لا عن أبي غرارة . فلئن عرف البخاري أبا الثورين برواية عمرو بن دينار عنه ، والتي وقع الاختلافُ في تكنيته فيها بين شعبة وسفيان بن عيينة ، كما سبق ؛ فهذه الرواية هي حديث عمرو بن دينار عن أبي الثورين قال : «¬سألت ابن عمر عن صيام يوم عرفة ؟ فنهاني» . كما تجده في مسند الحميدي ، والسنن الكبرى للنسائي ، والموضح لأوهام الجمع والتفريق للخطيب . وهذا الحديث نفسه الذي عُرف به أبو الثورين عند البخاري : قد رواه عثمان بن الأسود أيضا ، لكن سماه : محمد بن عبد الرحمن الجمحي ، كما عند الفاكهي في أخبار مكة (5/31-32رقم2778) .
كما قد توبع عثمان بن الأسود في روايته عن محمد بن عبد الرحمن الجمحي حديث النهي عن صيام عرفة : فقد رواه الفاكهي (كما سبق) من طريق عثمان بن الأسود ، وعثمان بن أبي سليمان ، كلاهما عن محمد بن عبد الرحمن الجمحي .
وعثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم قاضي مكة ثقة .
وأخرجه ابن جرير الطبري في تهذيب الآثار –مسند عمر - (1/385رقم588) ، من طريق الفضل بن عطية ، قال : «كنت عند عطاء بن أبي رباح ، فسأله رجل عن صوم يوم عرفة بعرفات ، فقال له شيخ عنده من قريش ، يقال له محمد بن عبد الرحمن : سألت ابن عمر عنه فنهاني» .
والفضل بن عطية المروزي صدوق .
وأما ما جاء من الاختلاف في تسمية راوي حديث زمزم ، ومنه تسميته بـ(ابن أبي مليكة) ، وأن ابن أبي مليكة هو أبو غرارة محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر التيمي الجدعاني = فلا يقاوم هذا أدلةَ إثبات أن الراوي عن ابن عباس ، والذي يروي عنه عثمان بن الأسود : هو أبو الثورين . فإما أن أبا الثورين يقال في نسبه (ابن أبي مليكة ) أيضا ، وإما أن يكون هذا من توهمات الرواة عن عثمان بن الأسود .
إذن : لا شك أن الذي روى عنه عثمان بن الأسود ليس هو محمد بن عبد الرحمن التيمي أبا غرارة ، وإنما هو محمد بن عبد الرحمن الجمحي أبو الثورين .
ولذلك فقد خالف عامةُ العلماء البخاريَّ في ذلك ، ومنهم :
1- الإمام مسلم : حيث قال في الكنى (18) : «أبو الثورين محمد بن عبد الرحمن الجمحي المكي : عن ابن عمر ، روى عنه عثمان بن الأسود . وقال شعبة : أبو السوار » ، وعثمان بن الأسود هو من روى حديثه عنه عن ابن عباس ، مما يعني أن مسلما يخالف البخاري ، في أن راوي حديث التضلع من زمزم هو أبو الثورين ، وليس أبا غرارة . وقد ترجم مسلم لأبي غرارة ترجمة أخرى في الكنى (89) .
2- ووافقه في ذلك أبو حاتم ، فقال كما في الجرح والتعديل (7/323) ، فقال : (( سمع ابن عمر ، وابن عباس . روى عنه عمرو بن دينار ، وعثمان بن الأسود )) ، وترجم لأبي غرارة ترجمة أخرى .
3- وهذا ما وافق عليه أبو أحمد الحاكم في الكنى (3/31-32رقم994) ، فقد ترجم لأبي الثورين ، وسماه كما سماه مسلم ، ونص على سماعه من ابن عمر ، وأنه روى عنه : عمرو بن دينار ، وعثمان بن الأسود الجمحي المكي .
4- وقال ابن عبد البر في الاستغنا في معرفة المشهورين من حملة العلم بالكنى (1/498رقم508) : «أبو الثورين : محمد بن عبد الرحمن الجمحي : مكي ، تابعي ، ثقة . روى : عن ابن عباس وابن عمر . روى عنه : عمرو بن دينار ، وعثمان بن الأسود .
وقد كانت له كنية أخرى : أبو السوار ، وقد قيل : إن شعبة غلط إذ كناه بأبي السوار . وقال علي بن المديني عن ابن عيينة : كان له ابن يغضب إذا قيل لأبيه : أبو الثورين » .
فابن عبد البر يريد تبرئة شعبة من تهمة الغلط ، بأن له كنية أخرى ؛ لأن أحد أبنائه كان يكره تكنية أبيه بأبي الثورين !
ثم ترجم ابن عبد البر ترجمة أخرى لأبي غرارة (2/ 878-879رقم 1038) ، وسماه بمحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة القرشي التيمي.
5- وقال ابن منده في الكنى (رقم 1429) : « أبو الثورين : محمد بن عبد الرحمن الجمحي ، مكي . حدث عن : ابن عمر . روى عنه : عمرو بن دينار ، وعثمان بن الأسود .
أخبرنا علي بن نصر ، ثنا الحسين بن محمد ، قال : سمعت عمرو بن علي ، يقول : أبو الثورين الذي روى عنه عمرو بن دينار ، اسمه محمد بن عبد الرحمن الجمحي ، سماه عثمان ابن الأسود . سمعت يحيى بن سعيد ، يقول : ثنا عثمان بن الأسود عن محمد بن عبد الرحمن .
ورواه شعبة عن عمرو بن دينار ، عن أبي السوار ، أنه سأل ابن عمر عن صوم يوم عرفة ، قال الحسين : سمعت محمد بن المثنى ، يقول : هم يقولون أبو الثورين ، وهم فيه شعبة ، وتوهم أنه أبو السوار» .
6- وقال أبو أحمد العسكري في تصحيفات المحدثين (1/45) : « أَبُو الثَّوْرَيْنِ : هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ ، رَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، رَوَى عَنْهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَعُثْمَانُ بْنُ الأَسْوَدِ» .
7- المزي في تهذيب الكمال وتحفة الأشراف .
8- الذهبي في تذهيب التهذيب والكاشف والميزان وغيرها .
9- ابن حجر في التهذيب والتقريب .
وقد قال ابن معين كما في رواية الدوري: « وقد روى عمرو بن دينار عن محمد بن عبد الرحمن القرشي وهذا الذي يقال له أبو الثورين » ، وقال أيضا : « حديث أبى الثورين يحدث به سفيان بن عيينة ، يقول : أبو الثورين ، ويقول حماد بن سلمة عن محمد بن عبد الرحمن القرشي ، ويقول شعبة : أبو السوار ، وكلهم يحدث به عن عمرو بن دينار هذا . وأخطأ فيه شعبة ، إنما هو عمرو بن دينار عن أبى الثورين ، وهو محمد بن عبد الرحمن القرشي» . وقال أيضا : « أبو الثورين صاحب عمرو بن دينار ، وقد روى عن ابن عمر . (قال الدوري: ) قلت ليحيى : سماه عمرو ، قال أبو الثورين ؟ قال : لو لم يسمه ، لم يعرفه » . وقال أيضا : « وشعبة يخطىء أيضا في حديث عمرو بن ينار عن أبي الثورين يقول عن عمرو بن دينار عن أبي السوار» .
وقال الإمام أحمد : « وأخطأ شعبة في اسم أبي الثورين ، فقال : أبو السوار ، وإنما هو أبو الثورين . قلت لأبي : من هذا أبو الثورين ؟ فقال : رجل من أهل مكة ، مشهور ، اسمه : محمد بن عبد الرحمن ، من قريش . قلت لأبي : إن عبد الرحمن بن مهدي زعم أن شعبة لم يخطي في كنيته ، فقال هو السوار ؟ قال أبي : عبد الرحمن لا يدري ، أو كلمة نحوها » .
وقال الإمام أحمد أيضا : «حدثنا غندر قال حدثنا شعبة عن عمرو بن دينار عن أبي السوار يقول سألت بن عمر عن صوم يوم يعني عرفة فنهى عنه قال أبي وقال بن عيينة عن عمرو عن أبي الثورين أخطأ شعبة» .
وقال الدارقطني في المؤتلف والمختلف (1/3340335) : «أبو الثَّوْرين مُحمَّد بن عبد الرَّحْمن الجمحي : مكي ، رَوَى عن ابن عُمَر ، رَوَى عنه عَمْرو بن دِينَار .
حَدَّثَنا إسماعيل بن مُحمَّد الصَّفَّار وحمزة بن مُحمَّد قالا : حَدَّثَنا إسماعيل بن إسحاق، حَدَّثَنا علي ، حَدَّثَنا سُفْيان قال : قال عَمْرو : وأخبرني رجل من بني جمح يقال له : أبو الثَّوْرين ، قال : نهاني ابن عُمَر ، عن صوم يوم عرفة .
قلت لسُفْيان : فإن عُثْمان بن الأَسْود يسميه مُحمَّد بن عبد الرَّحْمن الجمحي ؟ قال سُفْيان : هو مُحمَّد بن عبد الرَّحْمن ، قال سُفْيان : وكان له ابن يطلب الحديث, يغضب إذا قالوا له : أبو الثَّوْرين ، قال : وكان شُعْبة يقول : أبو السَّوَّار.
وفي هذا الحديث قال سُفْيان : لم يفهم ، كانت أسنان عَمْرو قد ذهبت .
وأمَّا قول شُعْبة فيه : أبو السَّوَّار . فحدثنا علي بن عَبد الله بن مُبَشِّر ، حَدَّثَنا أحمد بن سِنَان ، حَدَّثَنا عبد الرَّحْمن ، عن شُعْبة ، عن عَمْرو بن دِينَار ، عَن أبي السَّوَّار قال : سألت ابن عُمَر ، عن صوم يوم عرفة ؟ فنهاني.
والصواب : أبو الثَّوْرين . وهذا مما يعتد به على شُعْبة فيما يهم فيه.
وحَدَّثني دَعْلَج بن أحمد وآخرون ، حَدَّثَنا عَبد الله بن أحمد بن حَنْبل قال : سَمِعتُ أبي يقول : أكثر خطأ شُعْبة في أسماء الرجال» .
وقال في العلل (12/418-419رقم2850) : « وسئل عن حديث يُروى عن أبي السوار ، عن ابن عمر - موقوفاً - : في النهي عن صوم يوم عرفة . فقال : يرويه عمرو بن دينار ، واختلف عنه : فقال شعبة : عن عمرو بن دينار ، عن أبي السوار ، عن ابن عمر . ووهم شعبة في [ كنيته ] ، وإنما هو : أبو الثورين . واسمه : محمد بن عبد الرحمن الجمحيّ .
[ كذلك رواه ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي الثوريّن . وهو الصواب ] .
حدثنا إسماعيل الصفار ، وحمزة بن محمد ، قالا : حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، قال : حدثنا عليّ - يعني : ابن [ المديني ] - ، قال : حدثنا سفيان ، قال : قال عمرو : أخبرني رجل من بني جُمح ، يقال له : أبو الثورين ، قال : نهاني ابن عمر عن صوم يوم عرفة .
[ قال ] عليّ : قلت لسفيان : فإن عثمان بن الأسود يسمّيه : محمد بن عبد الرحمن الجمحيّ ، فقال سفيان : هو محمد بن عبد الرحمن . قال سفيان : وكان له [ ابن ] يطلب الحديث ، ويغضب إذا قالوا : أبو الثورين .
قال : وكان شعبة يقول : أبو السوار ، في هذا الحديث . قال سفيان : لم يفهم ؛ كانت أسنان عمرو [ قد ] ذهبت » .
وكلام الدارقطني يدل على أن ابن عبد البر استثمر كلام علي بن المديني خطأ ! إذ كون ابن أبي الثورين كان يغضب من تكنية أبيه بأبي الثورين ، الذي حكاه سفيان بن عيينة عنه لم يمنع ابن عيينة من توهيم شعبة في تكنيته بأبي السوار ، حيث بين سبب وهم شعبة ، وهو أنه أدرك عمرو بن دينار وقد كبر وسقطت أسنانه ، فكان لا يحسن نطق الثاء ، ولربما خرجت معه سينا !!
ونبه الخطيب البغدادي في الموضح لأوهام الجمع والتفريق (2/ ) على خطأ شعبة في كنيته ، لكنه لم يذكر ما له علاقة بتعيين راوي حديث زمزم ، وهو الأهم في هذا السياق .
قال الإمام الذهبي في الميزان : « أبو الثورين : محمد بن عبد الرحمن : صدوق ، غيره أوثق منه» . وقال في المغني في الضعفاء : «قوي» . وكان قد ترجم له في الأسماء في الميزان ، وذكر أنه هو الراوي عن ابن عباس ، ورمز لابن ماجه ، فهو عنده هو راوي حديث زمزم . وأفاد في الأسماء : أنه توفي مع عطاء بن أبي رباح .
وأخطأ أصحاب الجامع في الجرح والتعديل (رقم 3188) فظنوا أن الذي ذكره الدارقطني في الضعفاء والمتروكين هو أبو الثورين ، والصواب أنه الجدعاني أبو غرارة .
له حديث : أخرجه عبد بن حميد في مسنده (رقم 845) ، والدارقطني في الغرائب والأفراد (رقم 3147) . قال عبد بن حميد : «حدثني سعيد بن سلام : ثنا زكريا بن إسحاق ، عن حميد الأعرج عن محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يخطب الناس وهو يقول لا تأتون الله يوم القيامة بشيء هو أفضل من صلاتكم ألا وإن صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فواحدة » . وقال الدارقطني عقبه : « غريب من حديث محمد بن عبد الرحمن الجمحي المكي ، وهو أبو الثورين ، تفرد به حميد بن قيس المكي الأعرج عنه ، تفرد به زكريا بن إسحاق عنه» .
وحميد بن قيس الأعرج المكي : ليس به بأس ، والإسناد إليه جيد .
وخلاصة ترجمته أنه : محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الجمحي المكي ، أبو الثورين ، ومن قال : أبو السوار فقد أخطأ .
سمع عبد الله بن العباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم .
روى عنه : حميد بن قيس الأعرج ، وعثمان بن الأسود بن موسى المكي مولى الجمحيين ، وعثمان بن أبي سليمان بن جبير القاضي المكي ، وعمرو بن دينار المكي ، والفضل بن عطية المروزي .
توفي سنة : 114 هـ .
قال عنه الإمام أحمد : مشهور .
وذكره ابن حبان في الثقات .
ووثقه ابن عبد البر .
وقال الذهبي مرة : صدوق ، غيره أوثق منه ، وقال أخرى : قوي .
وأما معنى الحديث :
فقد قال المناوي في فيض القدير عن ماء زمزم في شرحه لهذا الحديث : «والرغبة في الاستكثار منه عنوان الغرام وكمال الشوق ؛ فإن الطباع تحنّ إلى مناهل الأحبة ومواطن أهل المودة ، وزمزم منهل المصطفى صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، ومحل تنزل الرحمات وفيض البركات ، فالمتعطِّش إليها والممتلئ منها قد أقام شعار المحبة ، وأحسن العهد إلى الأحبة ؛ فلذلك جعل التضلع منها علامة فارقة بين النفاق والإيمان.
ولله در القائل:
وما شغفي بالماء إلا تذكرا . . . لماء به أهل الحبيب نزول
ثم إن ما أوهمه ظاهر اللفظ من أن من لم يشرب منها مع تمكنه يكون منافقا - وإن صدق بقلبه - غير مراد ، بل خرج ذلك مخرج الترغيب فيه ، والزجر والتنفير عن الزهادة فيه. على أن العلامة تَطّرِدُ ولا تنعكس ؛ فلا يلزم من عدم العلامة عدمُ ما هي له ».
وقال الأمير الصنعاني في التنوير :«وذلك لأنه لا يمتلئ ويستكثر من زمزم إلا المؤمن؛ لأنه يرغب فيما يحبه الله ورسوله، والمنافق على الضد من ذلك، وذلك لأن ماء زمزم فيه شيء من الملوحة، فلا يحمل على التضلع منه إلا الإيمان, ولما كانت هذه العلامة من الأمور المحسوسة، المشاهدة، نص عليها صلى الله عليه وسلم» .
علاقة هذا الحديث ببيان حكم صلاة الجماعة في المسجد :
وهذا الحديث يبين أن الأمر قد يكون مستحبًّا ، ومع ذلك يكون تركه من علامات النفاق في زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) ؛ لشدة تمسك الصحابة بالسنن والمستحبات ، حيث كان عامة المجتمع النبوي فسطاطين : فسطاط إيمان لا نفاق فيه ، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه .
وهذا هو ما حمل عليه بعض أهل العلم حديث الهمّ بالتحريق على من تخلّف عن صلاة الجماعة ، وهو أنه همّ بذلك لا لوجوبها ، وإنما لأن ذلك علامة النفاق . كما بين ذلك الإمام الشافعي في الأم ، حيث قال : «فيشبه ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من همه أن يحرق على قوم بيوتهم أن يكون قاله في قوم تخلفوا عن صلاة العشاء لنفاق» .
ويؤكد هذا التفسير قول ابن مسعود (رضي الله عنه) عن صلاة الجماعة : ««لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد عُلم نفاقه» ، فبيّن أنه كان لا يتخلّف عن صلاة الجماعة إلا المنافقون المعلوم نفاقهم بغير ترك الجماعة .
ثم جاء حديث التضلع من ماء زمزم ليبين أن علامة النفاق حينئذ قد تكون بترك أمر مستحب بالإجماع .
وأذكّر هنا بما لا يخفى على كل طالب علم : أن حكم صلاة الجماعة في المسجد عند الأئمة الأربعة هو عدم الوجوب على الأعيان ، وعند الإمام الشافعي أنه فرض كفاية : إذا قام بكفايته البعض سقط وجوبها عن الباقين .
ومع أن هذا الحكم هو الذي تذكره مدونات الفقه ، لكني أعلم أن كثيرا ممن نشؤوا بعيدا عن فقه الأئمة ، ممن يظنون أنفسهم متبعي الدليل سوف يستغربونه ، ولا يكادون يصدقونه ؛ لأنه قد غُيب عنهم !
وقد كنت كلما بينت لطلاب العلم صحة ما عليه الأئمة ، طالبوا بالرد على حجج الموجبين على الأعيان ، فكنت أجيب عنها حديثا حديثا ، فإذا جئت إلى حديث الهمّ بالتحريق احتجت إلى ذكر حديث التضلع من ماء زمزم ، لبيان صحة المعنى الذي ذهب إليه الإمام الشافعي وغيره .
فأحببت في هذا المبحث أن أُخرِّجه وأن أؤكد على ثبوته ، وإن كان فقه الباب مستغنيا عنه ، لكنه تأكيد لصحة فهم الأئمة وتوضيح له .
تاريخ النشر : 1439/05/02 هـ
طباعة المقالة